الأب الياس عدس

يقوم الصوم بالامتناع عن كل طعام وشراب ، إذ يحتل الصوم مكاناً هاماً في الممارسات الدينية بدوافع النسك والتطهير والحداد والتوسل إلى الله.

ففي الإسلام هو الوسيلة الكبرى للاعتراف بالسمو الإلهي .

و الصوم عند المسيحية هو أحد الركائز الأساسية التي تعبر أمام الله عن تواضع الإنسان ورجائه ومحبته .

الصلاة والصدقة والصوم

أولاً معنى الصوم

  لما كان الإنسان نفساً وجسداً ، كان من العبث أن نتصور ديانة روحية محضة ، لأن النفس لكي تلتزم بشيء تحتاج إلى أفعال الجسد .

فالصوم المصحوب دائماً بصلاة التضرع ، إنما يعبّر عن تواضع الإنسان أمام الله ، والصوم أيضاً يعادل إذلال النفس إن صح التعبير مثال على ذلك :

" أدوا للرب مجد اسمه، احملوا تقدمةً وتعالوا أمامه ، اسجدوا للرب بزينة مقدسة " ( أخبار 16/29 ) .

إذن فليس الصوم بمأثرة نسكية، ولا من أهدافه الحصول على حالة من الاختطاف النفسي أو الديني وإن كان مثل هذه الاستخدامات شواهد في تاريخ الأديان، أما في الكتاب المقدس، رغم أن الإنسان يعتبر الطعام هبة من الله، فينقطع الإنسان عنه للأسباب التالية :

    1 – الاتجاه نحو الله :

" فجعلت وجهي إلى السيد الإله لالتماس وجهه في الصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد "

( دانيال 9/3 ) .

" فناديت بصوم هناك ، عند نهرأ هوى ، لنتذلل أمام إلهنا ، طالبين إليه طريقاً سالمة لنا ولعيالنا ولجميع أموالنا"

( عزرا 8/21 )

    2 – الاستسلام للرب قبل القيام بمهمة شاقة :

 أمام الحرب ضد بني ينيامين "

" فصعد بنو إسرائيل، الشعب كله، وأتوا بيت إيل وبكوا، وجلسوا هناك أمام الرب، وصاموا ذلك اليوم إلى المساء، وأصعدوا محرقات وذبائح سلامية أمام الرب " ( قضاة 20 / 26 ) ودكاي وأستير يتداركان الخطر :

" اذهب واجمع كل اليهود في شوشن، وصوموا لأجلي، ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام، ليلاً ونهاراً، وأنا ووصيفاتي نصوم كذلك، ثم ادخل على الملك على حلاف السنّة . فإن هُلِكَت فقد هلَكتُ " ( أستير 4 / 16 )

    3 - لطلب الصفح عن الخطأ :

- ندامة آحاب :

" فلما سمع آحاب هذا الكلام، مزق ثيابه وجعل على يديه مسحاً وصام وبات في المسح ومشى رويداً رويداً "(1 ملوك 21/27 )0

    4 – لالتماس شفاء :

" وضرب الرب الولد الذي ولدته امرأة أوريا لداود حتى مرض، فتضرع داود إلى الله من أجل الولد، وصام ودخل بيته وبات مضجعاً على الأرض " ( 2 ملوك 12 / 15 – 16 )

وبعد موت الصبي " فقال لداود : لما كان الصبي حياً صمت وبكيت لأني قلت في نفسي : من يعلم ؟ قد يرحمني الرب ويحيا الصبي " ( 2ملوك 12 / 22 ).

    5 – في مناحة أو دفن :

" وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الطرفاء التي يابيش وصاموا سبعة أيام " ( 1 صموئيل 31 / 13 )

" وناحوا وبكوا وصاموا إلى المساء على شاول ويوناتان ابنه وعلى شعب الرب وبيت إسرائيل، لأنهم سقطوا بالسيف " ( 2 صموئيل 1/12 ) .

    6- بعد ترمل :

 بعد موت زوج يهوديت : " وكانت قد هيأت لنفسها عليه على سطح بيتها وكانت تضع مسحاً على وسطها وترتدي ثياب ترملها . وكانت تصوم جميع أيام ترملها ، ما خلا السبوت وعشيتها ورؤوس الشهور وعشيتها وأعياد بني إسرائيل وأفراحهم ." ( يهوديت 8 / 6 – 7 )

النبية حنة : " ثم بقيت أرملة فبلغت الرابعة والثمانين ممن عمرها، لا تفارق الهيكل، متعبدة بالصوم والصلاة ليل نهار " ( لو 2 / 37 ).

    7 – بعد نكبة وطنية :

 أمام فلسطين : " فاجتمعوا في المصفاة، واستقوا ماء وصبوه أمام الرب، وصاموا في ذلك اليوم وقالوا هنا : " قد خطئنا إلى الرب " وقضى صموئيل لبني إسرائيل في المصفاة " ( 1 صموئيل 7 / 6 )

داوود ورجاله : " وناحوا وبكوا وصاموا إلى المساء على شاول ويوناتان ابنه وعلى شعب الرب وبيت إسرائيل، لأنهم سقطوا بالسيف " ( 2 صموئيل 1 / 12 )

أخذ الكلدانيين أورشليم وأحرقوها بالنار : " فبكوا وصاموا وصلوا أمام الرب " ( باروك 1/5 )

    8 – لنيل وقف كارثة :

 غزو الجراد : " فالآن يقول الرب: ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والانتحاب، مزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم فإنه حنون رحيم طويل الأناة كثير الرحمة ونادم على الشر، لعله يرجع ويندم ويبقي وراءه بركة وتقدمة وسكيباً للرب إلهكم، انفخوا في البوق في صهيون وأوصوا بصوم مقدس ونادوا باحتفال، اجمعوا الشعب وقدسوا الجماعة واجمعوا الشيوخ واجمعوا الأطفال وراضعي الأثداء وليخرج العريس من مخدعه والعروس من خدرها، بين الرواق والمذبح، ليبك الكهنة وليقولوا " أشفق يا رب على شعبك ولا تجعل ميراثك عاراً فتسخر منهم الأمم : لماذا يقال في الشعوب أين إلههم ؟ " ( يوئيل 2 / 12 – 17 ).

للتجنب من أليفانا رئيس قواد نبوكد نصر ملك الآشوريين لئلا ينهب كل شيء والهيكل : " وصرخ جميع رجال إسرائيل إلى الرب صراخاً حاراً جداً ، وذللوا أنفسهم تذليلاً شديداً، هم ونساؤهم وأولادهم وقطعانهم وجميع النزلاء من أجراء وعبيد، وجميع رجال إسرائيل والنساء والأولاد المقيمون في أورشليم سجدوا أمام الهيكل، وعفروا رؤوسهم بالرماد وبسطوا مسوحهم أمام الرب، وغطوا مذبح الرب بمسح، وصرخوا صراخاً حاراً إلى إله إسرائيل بصوت واحد، ألا يسلم الأطفال إلى النهب ونسائهم إلى السبي ومدن ميراثهم إلى الدمار والمكان المقدس إلى التدنيس وإلى شمات الأمم المهين، فسمع الرب أصواتهم ونظر إلى شدتهم " ( يهوديت 4 / 9-13 )

    9 – لتنفتح القلوب للنور الإلهي :

" فقال لي ك لا تخف يا دانيال ، فإنك من أول يوم وجهت فيه قلبك للفهم ولإذلال نفسك أمام إلهك استجيب كلامك وأتيت أنا بسبب كلامك " (دانيال 10 / 12 )

" فقال لي ك لا تخف يا دانيال ، فإنك من أول يوم وجهت فيه قلبك للفهم ولإذلال نفسك أمام إلهك استجيب كلامك وأتيت أنا بسبب كلامك " (دانيال 10 / 12 )

    10 – الاستعداد لملاقاة الرب :

" وأقام موسى هناك عند الرب أربعين يوماً وأربعين ليلة، لا يأكل خبزاً ولا يشرب ماء، وكتب على اللوحين كلام العهد، الكلمات العشر " ( خروج 34 /28 )

" فجعلت وجهي إلى السيد الإله لالتماس وجهه في الصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد " ( دانيال 9 / 3 )من هنا نستنتج بعد هذه الجولة على معاني الصوم ولماذا نصوم وأرينا الدوافع المتنوعة للصوم من خلال الكتاب المقدس : إلا أن الأمر في جميع هذه الأحوال يتعلق بوضع الذات بإيمان في موقف من التواضع لتقبل عمل الله والوقوف بين يديه .

إن هذه النية العميقة تكشف لنا عن معنى الأربعينات التي قضاها موسى كما ذكرت آنفاً وإيليا ي سفر الملوك " فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين يوماً وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب " ( 1ملوك 19 / 8 ).

وأما بخصوص الأربعين يوماً التي صامها يسوع في البرية فلم يكن الغرض منها إعداد يسوع لتقبل روح الله ، وهو المملوء منه الملء الكامل " ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ من الروح لقدس ، فكان يقوده الروح في البرية " ( لو 4 / 1 ). بل كان هذا الصوم ليفتح يسوع رسالته المسيحانية الخلاصية بفعل تسليم لأبيه بثقة كاملة " ثم سار الروح بيسوع إلى البرية ليجربه إبليس . فصام أربعين يوماً وأربعين ليلة " حتى جاع . فدنا منه المجرب وقال له : " إن كنت ابن الله فأمر هذه الحجارة أن تصير أرغفة " فأجابه : مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( متى 4/1-4 ).

ثانياً ممارسة الصوم

كانت الليتورجيا تقيم " صوماً كبيراً " في يوم الكفارة " ومضى زمن طويل حتى أصبح ركوب البحر خطراً، لأن الصوم قد انقضى " ( أع 27 / 9 ) . وكان الصوم شرطاً للانتماء إلى شعب الله " فكل إنسان لا يذلل نفسه في هذا اليوم عينه يفصل من شعبه " ( أحبار 23 / 29 )

كانت أيضاً أصوام جماعية أخرى في الذكرى السنوية للنكبات الوطنية . فضلاً عن ذلك ، كان اليهود الأتقياء يصومون بدافع من تقواهم الخاصة كانت حنة النبية " لا تفارق الهيكل متعبدة بالصوم والصلاة ليل نهار " ( لو2 / 37 ) .

مثل تلاميذ يوحنا المعمدان والفريسيين " وكان تلاميذ يوحنا والفريسيون صائحين ، فأتاه بعض الناس وقالوا له : " لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين، وتلاميذك لا يصومون ؟ ( مرقس 2 / 18 ) .

وبعض الشعب اليهودي كان يصوم يومين في الأسبوع كما ذكر لوقا الإنجيلي في مثل الفريسي والعشار " إني أصوم مرتين في الأسبوع، وأودي عشر كل ما أقتني " ( لو 18 / 12 ) .

    الجديد في عهد يسوع المسيح

إنهم كانوا يحاولون بذلك إتمام عنصر البر كما حددته الشريعة والأنبياء، على يسوع، وإن لم يفرض على تلاميذه شيئاً من هذا النوع من البر، فهذا لا يعني أنه يزدريه، أو أنه يريد أن يلغيه، بل أنه أتى ليكمله، من أجل ذلك فإنه يمنع الإعلان عنه، ويدعو إلى تجاوزه في بعض النقاط " لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء : ا جئت لأبطل بل لأكمّل " ( متى 5 / 17 ) "

" فإني أقول لكم : إن لم يزد بركم على بر الكتبة والفريسيين لا تدخلوا ملكوت السماوات " ( متى 5 / 20 ) .

" إياكم أن تعملوا بركم بمرأى من الناس لكي ينظروا إليكم فلا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات " (متى 6 / 1 ) .

ويلح يسوع أكثر ما يلح على التجرد من حب المال " فقال يسوع للشاب الغني : إذا أردت أن تكون كاملاً ، فاذهب وبع أموالك أعطها للفقراء ، فيكون لك كنز في السماء وتعال واتبعني " ( متى 19 / 21 ). وعلى ممارسة العفة الاختيارية " فهناك خصيان ولدوا من بطون أمهاتهم على هذه الحال، وهناك خصيان خصاهم الناس، وهناك خصيان خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السموات . فمن استطاع أن يفهم فليفهم " ( متى 19 / 12
ولا سيما في إنكار الذات لحمل الصليب " ومن لم يحمله صليبه وتبعني فليس أهلاً لي، من حفظ حياته يفقدها وفقد حياته في سبيلي يحفظها " (متى 10/ 38-39 )


ثالثاً : أخطار الصوم

إلا أن ممارسة الصوم في الواقع لا تخلو من بعض الأخطار ، كخطر التمسك بالشكليات الذي سبق ونادوا بها الأنبياء :

عاموس : لقد أبغضت أعيادكم ونبذتها ولم تطب لي احتفالاتكم " ( عا 5 / 21 )

ارميا : قال لي الرب : لا تصلِّ ن أجل هذا الشعب للخير، إذا صاموا فلا أسمع صراخهم، وإذا أصعدوا محرقة وتقدمة فلا أرضى عنهم، بل أفنيهم بالسيف والجوع والطاعون " ( ارميا 14 / 12-13 ) والخطر الثاني هو خطر الكبرياء ، والتظاهر، إذا صام الصائم بغاية إظهار نفسه للناس " وإذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين، فإنهم يكلمون وجوههم، ليظهر الناس أنهم صائمون. الحق أقول لكم إنهم أخذوا أجرهم " ( متى 6 / 16 ) لكي يكون الصوم مرضي لدى الله يجب أن يكون الصوم مقروناً بحب القريب وأن يتضمن سعياً وراء البر الحقيقي كما قال أشعيا " إنهم يلتمسونني يوماً فيوم، ويرومون معرفة طرقي كأنهم أمة تعمل البر ولا تهمل حق إلهها .

يسألوني أحكام البر ويرومون التقرب إلى الله " ما بالنا صمنا وأنت لم ترَ وعذبنا أنفسنا وأنت لم تعلم ؟ " في يوم صومكم تجدون مرامكم وتعاملون بقسوةٍ جميع عمالكم، إنكم للخصومة والمشاجرة تصومون ولتضربوا بكلمة الشر . لا تصوموا كاليوم لتسمعوا أصواتكم في العلاء، أهكذا يكون الصوم الذي فضلته اليوم الذي فيه يعذب الإنسان نفسه أإذا حنّ رأسك كالقصب، وافترش المسح والرماد تسمي ذلك صوماً مرضياً للرب ؟ أليس الصوم الذي فضلته هو هذا :

حلّ قيود الشر وفَكُّ ربط النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً وتحطيم كل نير ؟

أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك ؟

"حينئذ ينبزغ كالفجر نورك ويُعَذب جرحك سريعاً ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع شملك حينئذ تدعو فيستجيب الرب وتستغيث فيقول : هاأنذا إن أزلت من أبنائك النير والإشارة بالإصبع والنطق بالسوء ، إذا تخليت عن لقمتك للجائع وأشبعت الحلق المعذب يشرق نورك في الظلمة ويكون ديجورك كالظهر ويهديك الرب في كل حين ويشبع نفسك في الأرض القاحلة ويقوي عظامك فتكون كجنةٍ ريا وكينبوع مياه لا تنضب " ( أشعيا 58 / 2-11 )

كما لا يجوز فصله بعد عن الصدقة والصلاة، وأخيراً يجب أن يكون حبنا لله الدافع الأول لصومنا، كذلك يدعو يسوع إلى القيام به في تكتم تام، فمثل هذا الصوم المعروف من الله وحده، سيكون التعبير الصادق عن رجائنا فيه، هذا هو الصوم المتواضع الذي يفتح القلب للبر الباطني، الذي هو عمل الآب وهو الذي يرى ويعمل في الخفاء.

" أما أنت ، فإذا صمت ، فاذهب واغسل وجهك ، لكيلا يظهر للناس أنك صائم ، بل لأبيك الذي في الخفية ، وأبوك الذي في الخفية يجازيك " (متى 6 / 17/18 ).

رابعاً مع الكنيسة

حافظت كنيسة المسيح في العهد الرسولي، فيما يتعلق بالصوم على العادات اليهودية، المؤداة طبقاً للروح التي أملاها يسوع، وتذكر أعمال الرسل بعض احتفالات العبادة التي تتطلب الصوم والصلاة :

" فبينما هم يقضون فريضة العبادة للرب ويصومون، قال لهم الروح القدس " أفردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه " فصاموا وصلوا، ثم وضعوا عليهم أيديهم وصرفوهما " ( أعمال 13 / 2 – 4 ) .

ولا يكتفي بولس، خلال عمله الرسولي المضني، باجتماع الجوع والعطش، اللذين تفرضهما عليه الظروف، بل يضيف إلى ذلك أصواماً عديدة " الجلد والسجن والفتن والتعب والسهر والصوم " ( 2 قور 6 / 5 ) " جهد وكد، سهر كثير، جوع وعطش، صوم كثير، برد وعري " ( 2 قور 11/27 ) وظلت الكنيسة أمينة على حفظ هذا التقليد، وهي تحاول بغرض ممارسة الصوم أن تضع المؤمنين في حالة تفتح كامل لنعمة الرب ، إلى أن يجيء .

فإن كان مجيء المسيح الأول قد وضع حداً لانتظار شعب الله المختار، إلا أن الزمن الذي يتبع قيامته ليس هو لعد زمن الفرح الكامل ، الذي يستغني فيه عن أعمال التوبة .

أن يسوع نفسه ، يدافع عن تلاميذه ، لعدم قيامهم بفريضة الصوم ، بقوله : " أيستطيع أهل العريس أن يصوموا والعريس بينهم ؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا ، ولكن سيأتي زمن فيه يرفع العريس من بينهم ، ففي ذلك اليوم يصومون " ( مرقس 2 / 19-20 )

إذا الصوم هو البحث عن الحبيب أو بالأحرى عن العريس.

وتوبة الإنسان الباطنة قد تتخذ تعابير متنوعة، ويلح الكتاب المقدس والآباء على ثلاثة أشكال لها : الصوم والصلاة والصدقة ، وهي تعبر عن الارتداد في علاقة الإنسان مع ذاته ومع الله والآخرين ، فإلى جانب التغذية الجذرية التي تتم بالمعمودية أو بالاستشهاد علينا أن نعيش التنقية لنيل الغفران بالطريقة التالية : الجهود المبذولة للتصالح مع القريب ، ودموع التوبة ، والاهتمام بخلاص القريب ، وشفاعة القديسين وممارسة المحبة التي تستر جماً من الخطايا .

 
الأب حنا كلداني

الصوم هو زمن تقشف لإسكات هتافات البدن وضجيجه فنتمكن من أن نسمع هتافات الروح ونتعمّق في كلمة الرب ونتبيّن مشيئته وإلاّ يكون صيامنا امتناعاً عن الطعام من دون اهتداءٍ داخلي. منذ بدايات وعي الإنسان بارتباطه بعالم الألوهة شعر بضرورة إخماد سطوة الشهوة والحواس عليه لأنها تبعده عن شفافية وصفاء عالم الروح، وقد ظهرت آثار هذا الصراع في سفر التكوين الذي يذكر أن الإنسان قد خلق من عنصرين: التراب والروح. أحدهما يناقض الآخر.

وقد عانى القديس بولس كما يعاني كل واحد فينا من هذا الصراع بين الروح والجسد: "ما أشقاني من إنسان. فمن لي بمن ينقذني من هذا الجسد الذي يصير بي إلى الموت" (روم 7: 24). يتّم في الصوم السعي لإخماد شهوة الجسد والحدّ من تسلّطه، نروضه على الخضوع للروح التي تقوده إلى الحياة كما يقول القديس بولس: "فالذين يحيون بحسب الجسد ينزعون إلى ما هو للجسد والذين يحيون بحسب الروح ينزعون إلى ما هو للروح فالجسد ينزع إلى الموت وأما الروح فينزع إلى الحياة والسلام" (روم 8: 5- 6). لنطرح هذه التساؤلات على أنفسنا :

ماذا يتغير فينا في الصوم ؟ هل هو زمن توفير أم زمن صلاة ومساعدة ومحبة ؟

إن كان زمن توفير فمن يصوم كبخيل يقضي كل حياته في الصّوم، ولكن بدون صلاة! هل هو مناسبة للرجيم ؟ للذين يعتنون بصحّتهم الفضل الأكبر في هذا المجال، ولكن بدون صلاة! هل هو زمن محبة؟ في هذه الحالة يتقدَّس في الصوم فمان: الفم الذي يصوم في الصّلاة محبة بالله وبالقريب والفم الذي يأكل لأن الآخر صام فيصلي شاكراً. هل الصوم هو زمن قداسة وعبور من روح هذا العالم إلى الله ؟ عملياً، هل تغلّبنا على ذواتنا وبدأنا نعيش المصالحة والمحبة والمغفرة؟ هل نعبر كل يوم من ذواتنا إلى الله؟ عمَّ أتخلّى لأتغيّر وأموت عن ذاتي لأعبر في المسيح إلى القيامة؟ وطوبى للصائم الذي يقوده صومه إلى العبور من صحراء الموت إلى عالم الروح إلى الله لان الصوم الحقيقي هو الموت عن هذا العالم والامتلاء بحياة الله في الصلاة.

الصوم في الكتاب المقدس

هل يطلب منا السيد المسيح أن نصوم؟

يعتبر الصوم أقدم وصيَّه عرفتها البشرية منذ الخليقة، فإنه عندما أوصى آدم وحوَّاء في الفردوس بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. كما جاء في (تك 2: 16-17) " من جميع شجر الجنَّةِ تأكل أكلا وأما شجرة معرفة الخير والشَّّر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت". وفي العهد القديم أمر الله موسى أن يصوم أربعين يوما ليتسلَّم الشريعة. ويقول داؤود النبي: "أذللتُ بالصومَ نفسي" (مز35: 13).

وبعدها صام إيليا النبي أربعين يوما وأربعين ليلة تمتَّعَ بعدها بمشاهدة الله على جبل حوريب. ويقول النبي أشعبا (58: 6-7) "أليس هذا الصوم الذي فضلته أن تكسر للجائع خبزك، وتدخل المطرودين بيتك، وإذا رأيت العريان تكسوه... حينئذ تدعو فيستجيب الرب وتستغيث فيقول هاأنذا".

ولا تنسى طابع الخفية فهو شيء مميز أثناء الصوم "فمتى صمت فادهن رأسك، واغسل وجهك، ولا تكن كالمرائي" (متى 6: 16-17).

وفي العهد الجديد صام المسيح أربعين يوما بالبرية كذلك رسله، وقد قال السيد في ذلك عندما سأله تلاميذ يوحنا: "لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟" ،  فأجابهم يسوع: "ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" (متى 9: 15) وقد صاموا فعلا.

وقيل عن بطرس الرسول "أنه كان صائما حتى جاع كثيرا واشتهى أن يأكل " (أع 10 :10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم. وهكذا كان إعلان الأمم في أثناء الصوم. أما يوحنا المعمدان فقد عاش حياته بالصوم والخلوة في البرية قبل أن يبدأ خدمته داعيا الناس إلى التوبة.

فالصوم دخول في رحاب الفصح المقدس، إنه الطريق الذي يوصلنا إلى القول: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات".

إن صوماً يخلو من روح التوبة لا معنىً له. فالصوم وسيلةٌ روحيَّه لتنقية القلب، وضبطٌ لنزواتنا، وتجاوز شجاع للأنا ، فترَةٌ ينسحق فيها القلب ويُستمع فيها إلى الله.

الصلاة

"إذا صليتم فلا تكونوا مثل المرائين يحبون الصلاة، قائمين في المجامع ومفارق الطرق ليشاهدهم الناس. الحق أقول لكم: هؤلاء أخذوا أجرهم، وأما أنت فإذا صلّيت، فادخل غرفتك وأغلق بابها وصلّي لأبيك الذي لا تراه عين وأبوك الذي في الخفية هو يكافئك.

هناك الصلاة الجماعية كصلاة الأحد، وهناك الصلاة الفرديَّه. حديثي الآن هو عن الصلاة الفرديَّه: كما الطفل الذي يتسلق إلى حضن والده أو والدته ويصغي إلى كلامهما وقصصهما، هكذا نتلهّف إلى سماع كلمتك يا الله ونتلهّف إلى أن نغرس كلمتك في قلوبنا. كما لكل شيء في الدنيا منهج كذلك الصلاة.

بداية يجب أن تكون وحيدا ولا يكون هنالك أيُّ عائق يحول دون استجابتك لحضور الله، مسترخيا... مسالما... جسدك منسجما مع روحك، واعيا بحضور الله... ثم ابدأ بقراءة فقرة من الكتاب المقدس ببطء وانتباه، الآن تصل إلى أجمل خطوه وهي فترة السكون. كن طفلا يناجي خالقه وأباه، خاطبه، حادثه، أخبره، بما تفكّر وتشعر، وأخبره ما الذي ستقدِّمه له، ما لذي تريدُهُ منهُ... غازلهُ وأخبرهُ عن محبتك لهُ كحبيب... كصديق... كأب وأخ.

أيها القارئ: الصلاة باستعمال الكتاب المقدس لا تعني قراءة كل الفقرات والإسفار، لكنها تعني أن تغرس في قلبك كل المعاني والقيم، كل كلمه من كلمات الكتاب المقدس، كما العماد يجعلك تولد ولادة جديدة مع المسيح.

هكذا يجب أن يحدث بعد الصلاة يجب أن تتخلَّى عن عاداتك السيئة، وتطلب المغفرة وحُب العطاء والخير للجميع.

إذن ابدأ مسيرة إيمانك بالصلاة ، وكلِّلها بالصوم والصدقة والله يكافئك كما يشاء

الصدقة

اذهب وبع كل ما تملك وتصدق به على الفقراء

في الموعظة على الجبل ربط يسوع الصوم والصلاة والصدقة بخيط واحد... وهو الخفيه....

على المسيحي أن يقوم بهذه الأعمال خفيةً...

إذا صام فليغسل وجهه... ويدهن شعره... ويبتسم.

وإذا صلَّى فليدخل حجرته، ويغلق بابه، ويصلِّي بعيدا عن الناس.

وإذا أعطى إحسانا لا يطبل ولا يزمِّر بل لا تعرف شمالك ما فعلت يمينه.

بهذا حوَّل السيد المسيح الصوم والصلاة والصدقة إلى فعل شخصي بين الإنسان وربُّه... لكي لا يحصل على الثناء من البشر، ولكن أباه هو الذي يكافئه.

فإن ابتسمت لحزين ........... فهذه صدقه.

وإن أطعمت جائعا............. فهذه صدقه.

وإن زرت سجينا............... فهذه صدقه.

وإن ساعدت مريضا........... فهذه صدقه.

فيا ليتك يا أخي تجعل أيام حياتك صدقةً دائمة..... تشارك بها الآخر بما قد أنعم الله عليك، ولكن بشرط واحد..... أن تكون المعطي المتهلّل.

روحانية الصوم

صام يسوع في البرية فانتقل من الحياة السرية إلى الحياة العلنية التبشيرية، كانت مرحلة تحول وتحضير لمرحلة جديدة بالعمل والقول، فالصوم هو ارتداد القلب في العمق، وتجديد الحياة، والاستعداد لفتح أبواب النفس مستقبلةً نعمة الله.

الله يدعونا جميعا فلنستجب لدعوته ولنتصالح مع أنفسنا ومع الله. فلا ندع الفرصة تفوتنا في هذا الزمن، زمن الارتداد والتوبة وتهيئة النفس للاغتسال بدم الحمل. يجوع الجسد... فتعلم معنى الحرمان.. فنُخضِِِع كبرياء النفس لتعيش ما يعيشه المحروم والفقير...

بذلك نصبح قلباً واحداً ينبض مع نبضات كل متألم ، ومحروم، يجوع الجسد... فتُغذّى النفس بالتواضع، وحُب العطاء، والمحبّةِ ، والرحمة، فنرى المسيح في كل متألم ومحروم... نكون بذلك قد تبدلّنا وتحولنا من العمق كي نكون مستعدين جسدا ونفسا للمشاركة بفصح المسيح ومجده.

الصوم هو التوبة

إن موضوع الصيام في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مرتبط بالتوبة. فالشعب القديم كان يتوب ويصوم ويصلي... طلباً لرحمة الله. فهذه الثلاثة مرتبطة ارتباطاً كاملاً. فالصوم هو جزء من حياة التوبة لذلك شددت الكنيسة منذ القدم في زمن الصيام الكبير على فكرة توبة الشعب... ومراجعة النفس للوصول إلى الفصح والقيامة مع السيد المسيح. الصيام إذا ليس طقوسا نتبعها... بتغيير عادات الطعام والشراب فقط بل هو صيام النفس قبل الجسد ومن ثم يتبعها حرمان الجسد من بعض الأطعمة... أو البقاء بدون طعام... وذلك بصرف النفس وقتا في الصلاة وهذا عمل نبيل... والصيام يعلمنا ضبط النفس عن الماديات الزائلة... ويجعلنا ننظر بعين الرضا إلى عطايا الله... وأن نتذكر الإنسان الفقير.

أقوال في الصوم والصلاة والصدقة

- يقول القديس باسيليويس:"الصوم مثل طير له جناحان الصلاة والرحمة لا يستطيع أن يطير ويحلق بدون جناحيه".

- إذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين... إما أنت إذا صمت فاغسل وجهك لكي لا تظهر صائما للناس بل لأبيك الذي في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك.(متى 16:6)

- إذا تصدقت فلا تعلم شمالك ما تفعل يمينك وأبوك الذي في الخفية يجازيك.

- يقول القديس يوحنا المعمدان: "من له ثوبان فليعط من لا ثوب له ومن عنده طعام فليفعل كذلك".

- صم لأنك خاطئ، وصم لئلا تُخطئ: ( القديس اغسطينوس ) .

- أخطر ما في الخطيئة انه انفصال عن الله، انفصال في القلب، والحب، والمشيئة، والعمل: ( البابا شنودة ) .

- إن الله يريد التوبة حينما تنتصر الروح على الجسد في فترة الصوم وتستطيع أن تخضع الجسد وتصلبه مع كافة أهوائه: ( البابا كيرلوس السادس ) .

- إن الدموع التي نذرفها على الخطايا أثمن من كل جواهر العالم: ( يوحنا ذهبي الفم ) .

- سأتوب الآن وليس غداً، هذه اللحظة في يدي وأما الغد فبيد الله: ( القديس فيوفان الناسك ) .

- إنَّ رفع اللحم عن المائدة لا يُعد صوماً حقاَّ، ولكن رفع الخطيئة من القلب هو الصوم الحق.

- القريب ليس من كان تربطك به صِلة الدم ، ولكن القريب هو كل من كان في عوز.

لماذا أربعون يوما ؟..

إن الرقم 40 له معاني كثيرة في الكتاب المقدس فالفيضان دام 40 يوما؛

بقى الشعب العبراني في الصحراء 40 سنة؛

يونان النبي أعطى مهلة 40 يوما لأهل نينوى لكي يعودوا عن الخطيئة؛

إيليا النبي يسير 40 يوما قبل بدء رسالته؛

يسوع يصوم 40 يوما .

فالرقم 40 دلالة روحيه وليس رقميه ، ففي المواقف السابقة جميعها كانت الحالة تتغير من السيئ إلى الحسن خلال 40 يوما .

لذلك جعلت الكنيسة مدة الزمن الأربعيني 40 يوما لكي يتحول بها الإنسان من حالة الإنسان الخاطئ إلى حالة النعمة.

"قد تأخرت بحبك يا الله" القديس اغسطينوس

تجربة شخصية

قد نقرأ هذه الكلمات وقد نسمعها كثيرا دون أن تعني لنا شيئا... كلمات جميلة نحب سماعها ونكررها للقديس أغسطينوس متذكرين ذلك القديس الذي أحب يسوع متأخرا بعد أن كان بعيدا عن حياته.

لكن لو عشنا هذه الكلمات لأدركنا المتعة الحقيقية عند ترديدها على لساننا، اللسان يتحرك والقلب ينطق نابضا معترفا بما كان يحمل من أثقال قد زالت وطرحت عنه. لقد كان يسوع بالنسبة لي وجود بلا موجوديه. أسيرُ معتمدا على ذاتي. أتصرف بضمير... لا أُسيء، معتقدا أن هذا يكفي كي أكمل دربي أملأ قلبي من هنا وهناك من ماديّات الحياة. فجأة وجدت نفسي في مفترق طرق لا أعرف أين أذهب وشاءت الظروف، لا أعرف كيف، أن يطرق باب قلبي، هو كان الطارق منذ زمن ولكن ربما هي الظروف التي جعلتني أسمع الطَّرَقات الآن وليس من قبل، حيثُ أنِّي أضعت الطريق، استجاب قلبي لهذه الطرقات، مستكشفا من أين ولماذا، وإذ بي أجد نفسي وقد كانت فارغة أسير وراء سراب، عطشى أتضور جوعا... تائهة... وإذا بابتسامة رقيقة ونظرات مليئة بالفرح والأمان تظهر من بعيد، نظرت بصمت... نظرات لا اعرف تفسيرها، اجتمع فيها الخوف والأمان... التردُّد والشوق. ابتسامةٌ مخنوقة تحاول أن تظهر للوجود، صلَّيت كثيرا... وطلبت من يسوع أن يعرفني على نفسه، أن يكشف لي ذاته... هو الذي أحبَّني منذ زمن بعيد... وبعدها... وبعدَ أن استجبت لطرقاته استجاب لي، وبدأ يظهر في حياتي كل يوم وبدأت أشعر بتلك الابتسامة تقترب من قلبي حتَّى دخلت إليه وبعدها ماذا أقول... فقط في هذه المرحلة اكتشفت المعنى الحقيقي الكبير لهذه الكلمات، فلم أعد بحاجه إلى شيء ، امتلأت منه، عرفت السلام وعرفت كم كُنت تائهة، عرفت المعنى الحقيقي للسعادة.

وفي النهاية أعتقد أن هذه الكلمات "لقد تأخرت بحبك يا يسوع " لا تقاس بالزمن وتعني العمر المتأخِّر، فمن يعيش الحياة مع يسوع يدرك كم ضاع منه دقائق وثواني، فالثانية بعيدا عن يسوع تساوي الَّزمن.

تجربة شخصية

لا بد من اللقاء

نتخبط كثيراً في طرقات الحياة، تأخذنا إلى متاهات، تجارب... فهذا المسيح معنا ونحن لا نراه، قابع فينا ولكننا غرباء عن أنفسنا... لا أعرف متى وكيف أخذتني الطريق إلى المسيح، فهو هنا بانتظاري، التقيت به، فرحة غامره تركت الماضي وكان المسيح حاضرا فيَّ وأنا فيه، تركت له مستقبلي بين يديه سلاما وطمأنينة، امتلأ قلبي ونفسي، غسلني من إثمي وألبسني ثوب التوبة.

صلاة

يا رب إذا صمت ساعدني أن: ألجم بالعفة العين واللسان وبالعفاف القلب والوجدان. وأطعم بصيامي أهل الجوع والدموع والحرمان حتى لا يكون صيامي منافقا، لا أجراً عند المسيح ولا ثواب ولا يكون صيامي بخلاً واقتصاداً.

تأمّل

في كل صباح كباقي الصباحات عندما تنثر الشمس جدائلها متباهية بيوم جديد، ويختبئ القمر وراء ستار نورها العظيم، وعندما تبدأ الحياة تدب في الحجر والبشر ويبدأ الكون دورة ليوم آخر، اشعر بشيء غريب لا استطيع تفسيره وأحس بذلك الدفء الذي غمرني كل يوم فأقف أمام عظمتك يا رب، وأتذكر من ولادة النهار ولادتك ومن شعور الدفء عظمة التضحية ومقدار الحب الذي زرعته فينا لنعطي دون حساب كما أعطيت ولتكون لدينا القدرة على تحمل عبء النهارات ومشاكل الحياة دون كلل أو ملل وأقوال في نفسي لتتمجد وليتمجد اسمك يا رب ولتكن ولادتك وموتك وقيامتك نوراً وطاقة تشحذ أنفسنا كل يوم.

 


المطران جورج خضر نحن فصحيّون أو نشتهي أن نكون كذلك. سندخل بعد يومين في هذا التوق بالصيام المسمّى الأربعيني وهو تربية تُقوّي فيها هذا التوق يوما فيوما وجهادا بعد جهاد لنستحقّ صبغة النور في عيد القيامة. نور للروح ونور للجسد في المساكنة التي بينهما الى حدّ التلاحم. ونحن لسنا في حديث قمع أحدهما للآخر. وإن أباحت اللغة استعمال كلمة إماتة فليس لنتحدّث عن إماتة للبدن، ولكن لكي نتكلّم على إماتة الأهواء والشهوات النابعة منها بغية اتحاد كياننا وكيان المسيح. بلا معرفة هذا الهدف، يأتي صومك متعة حرمان بشكل حمية.

ليس عندنا أمر إلهيّ بالصوم في الإنجيل. ولكن عندنا ما هو أبلغ، أعني صيام المسيح في البرية عندما كان يجرّبه الشيطان. أما زمان الصوم وتنظيمه وأطعمته فرتّبتها الكنائس منذ القديم كلّ واحدة منها في خيارها حتى اصطلحت الكنائس على أن نخصّص فترة أربعين يوما للرب متهيئين للعيد. وقد فهم آباؤنا في خبرتهم الروحية وبعدهم فرويد أن لذة اللسان واللذائذ الأخرى مترابطة، وأنك إن استطبت كثيرا وفي شراهة او رهافة تذوّق ما يؤكل يجعل تشهّيك خطرا على النفس، وتدرك أن الانكفاء عن بعض طعام وعن الخمر يقرّبك من الهدوء، والهدوء الداخلي يهيئ لك سبل الرؤية وربما سبل الرؤيا.

لذلك كان قومي الى عشرات من السنين يتناولون وجبة واحدة في اليوم بعد أداء صلاة الغروب، وهذا أمر تحدّث فيه القديس أبيفانيوس القبرصي في القرن الرابع، وكان ذلك قبل التشريع الكنسي الذي اتّخذ فقط في المجمع الخامس - السادس في اواخر السابع.

ثم استرخينا، ولانعدام النص المقنن، أخذنا نفطر عند الظهر، ولكن استسلمنا بالصلوات كلّ يوم اذ الصلاة عندنا هي الغذاء. سألني أحدهم مرّة: ماذا تأكلون؟ قلت: "نأكل صلاة". لست أعلم اذا هذا المرء فهم جوابي لكني أعرف حقيقة جوابي. كيف تدخل في الحركة الصيامية كلها وكيف تسوق نفسك الى ضياء الفصح ذلك كان السؤال، وإن لم تفعل هذا فأنت مستغرق في جسدانيتك حتى غور أخطائها. هل تريد أن تستبق الانبلاج لأنوار العيد لتعرف نفسك إن كانت ذوّاقة لعيد الأعياد وموسم المواسم أَم يكفيك تراكم الأيام تافهة عليك؟ هل أنت متململ حتى تجنح ام تقودك الأيام في حزنها؟

هناك غير البعد التقشّفي الفردي. هناك لصوقنا بالجماعة. نحن نصوم معا لكوننا نستقبل القيامة معا. انت تتطهّر مع الإخوة وفي سبيل الإخوة. نحب أن نعرف أننا جسد المسيح في الجهاد الواحد، في التوثّب الواحد انتظارا لليقظة الواحدة اذا حان حينها.

هذا يرافقه تتابُع مع الصلوات المفروضة وتلاوة الفصول الإنجيلية الموضوعة ولا سيما في الآحاد وهذا كلّ مسبوك او منسوج لكي ما ترقى من درجة الى درجة في العبادة ومن العميق الى الأعماق لأن النفس الصائمة تحب أن تحب وأن تشفّ لتتقبّل النعمة الراضية عنها وتكونها في بلّورية السلام.

نحن نعرف أن آباءنا الذين رتّبوا القراءات يوما بعد يوم وأحدًا بعد أحدٍ وذكرى قديس بعد ذكرى إنما كانوا صوّامين يوصلون الصلاة بالصلاة والدعاء وبالدعاء، تعبهم راحة، وانتقاص الأشياء عندهم غنى لكونهم يستغنون بما ينزل عليهم ولا تفوتهم بركات ويبلغون نهاية عزمهم متحسّرين على انقضاء صوم مبارك.

ماذا نزل على أكابرنا حتى نسقنا كل هذا الجمالات خلال سبعة قرون وأن نلازمها بدا لنا الحياة. لذلك نتوب في هذا الصوم او نحاول. كيف نصبح ناسا جددا هذا كان السؤال. كيف تتحول وجوهنا الى وجه يسوع هذا يبقى الهمّ. في هذا يتبيّن ايمانك لأن بعض الإيمان مراس والمراس وحده برهان الحب. الكلام في الروحيات بعض روحيات لكنه ليس كلها. الكل في المصلوبية التي تفرضها المحبة. وفي مصلوبيّتك تنتظر تفجر القيامة على رجاء أن تزول عتمات الخطيئة كلها.

في هذه الأربعينيّة المقدسة وفي تلألئها تشبه كنيسة الأرض كنيسة السماء. كيف تأخذنا الأشواق؟ الكلمات الخارجة من فم الله تصير هي الشوق والإقامة معًا. فالسماء تنزل عليك شرط صعودك اليها.

السماء تنزل عليك وعلى الإخوة الفقراء اذا أحببتهم اذ كان أحد العناصر التي أوجبت الصيام قبل تقنينه في القرن السابع أن ما يوجبه الصوم التصدق على الفقراء بثمن الطعام الذي يمتنع المؤمنون عن استهلاكه، فقد كتب احد الآباء المعروفين بالمُدافعين عن الإيمان الى الامبراطور داعيا إياه الى عدم اضطهاد المسيحيين وذلك في القرن الثاني اذ قال ما مفاده اننا نحن المسيحيين عندنا حسنة، وهو أننا نُمسك عن الطعام إن وجدنا بيننا فقيرا لا يأكل. وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم المتوفى السنة الـ 407 أن روما لم يبقَ فيها فقير وثنيا كان أم مسيحيا بسبب عناية المسيحيين بكل الفقراء. هذا ما يدلّ على ارتباط التقشّف الشخصي بالمحبة الأخوية. وما يدل على أن المسيحية مركّزة ليس على التطهّر الذاتي فحسب ولكن على التعاضد والتمسك الجماعي. هو التنسك من أجل الإخوة.

من الواضح أن روحية الصوم الأربعيني هي التي أثّرت في نشوء الأصوام الأخرى. توزيع الإمساك على فصول من السنة مختلفة يجعل لممارسة الصوم إيقاعات خلال السنة فيتربى المؤمن على الاعتدال ويحفظ نفسه في ما قلّ ليذكّرها بأن اهتمامها آخر. واذا جمعت هذه المواسم الى الإمساك يومَي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع ترى أن معظم أيام السنة في الكنائس الشرقية صياميّ وما نتوخّاه من هذا أن نضبط النفس لئلا تستكبر.

"ادخُلوا من الباب الضيّق". تلك هي التوصية الضامنة للخلاص. المسيحية فعلية بحيث انها تسعى الى تطويع المؤمن لربه نفسا وجسدا وليست ضائعة بالتنظير والتخيّل. المسيح فيها حاكم للملكات البشرية كلها حتى تتناسق وتُنتج معا لتجعل الله سيدا عليها، واذا تواضعت أمامه يرفعها من الموت كما رفع حبيبه.

 
المطران بولس يازجي

إنّ أقسى الكلمات على مسامع إنساننا المعاصر هي كلمة "التوبة" التي يدعونا إلى عيشها الصوم الكبير المقدس! ولعلّ ذلك لأن هذه الكلمة هي أكثر الحقائق غموضاً في حياته!

لا يرتاح إنساننا اليوم لهذه الكلمة لأنه يحب العادة ويركن إليها، ويخشى التبديل ويتجنّبه. التوبة تهزّ كيان الإنسان لأنها تشكّك بكلّ ما هو راهن أو عادي، أو على الأقل تمتحنه وتفحصه وتقيّمه!

مراجعة الحسابات في حياة الإنسان اليوم ممارسة غير محبوبة دائماً. وذلك لأن أي تشكيك في "صحة" مسلكيته يقوده إلى شعور بعدم الأمان، طالما أنه ثبّت ضمانه على قواعد متبّدلة بالأساس.

امتحان سريع لمواقف الإنسان المعاصر وقناعاته يكشف على الفور أن هذه المواقف مرات عديدة لا تستند إلى المنطق أو الحق أو العدالة، بل وللأسف إلى الإعجاب بالذات والادّعاء وربما إلى المصلحة الذاتية. حينها لا تبرّر هذه المواقف إلاّ "عللُ الخطايا"، كما يقول المزمور "لا تمل قلبي إلى كلام الشر فيتعلل بعلل الخطايا". لكن هذه التبريرات تسند مواقف الإنسان على مستوى اللحظة المتبدلة وليس على قاعدة الحقيقة الثابتة. لهذا تأتي تجارب الحياة، أو ربما تسطع الحقيقة، وتهدم كل هذه المستندات، وتفضح هشاشة وعدم إنسانية كل تلك المعايير الخاطئة وغاياتها. هل هي قليلة المفاجآت والمآسي والعثرات التي تظهر في حياة الناس؟

لكن "التوبة"، لنا نحن المسيحيين، هي الكلمة الأحبّ والأقرب إلى قلوبنا. لأنّ حياتنا هي مسيرة صاعدة، ولأنّ السيد وعدنا أنّه عندما يرتفع (على الصليب) سيرفعنا معه عن الهابط من دنيانا.

الصوم هو ممارسة من أجل التوبة. الصوم هو رياضة روحيّة تخرجنا من ستاتيكية حياتنا إلى طلب ما هو أفضل. الصوم يحرّكنا، نحن صورة الله، إلى تحقيق أكبر من مثاله. الصوم يمنع الرضى الكاذب عن الذات، الصوم يدفعنا إلى امتحان واقع حياتنا وتصحيح ما يلزم في مسيرتها. الصوم ليس هو مجرّد ممارسة جسدية أو صحيّة، الصوم فترةٌ مقدسة نقصد فيها عيش حياة التوبة.

التوبة ليست أيضاً مجرّد لوم الذات أو تقريعها. إنّ الندامة عن الضعفات والشعور بالألم من جراء أخطائنا أمور مطلوبة وضرورية جداً. لكن هذه دون صوم وأفعال محبة تبقى مجرّد آلام نفسية مضرّة أكثر مما هي مفيدة. ألم تَقُدْ مجرّدُ الندامةِ يهوذا إلى الانتحار؟

التوبة تتميز بالحزن البهي، هذا الحزن الذي يطبع الصوم الكبير بالتعب وبالفرح معاً. للتوبة فعلان. الفعل الأول هو الندامة والفعل الثاني هو المصالحة. الندامة هي نتيجة ضعفنا ومواجهتنا لذواتنا المقصّرة والكسولة، والمصالحة هي ثمرة الحبّ الإلهي المجانية. الندامة تلد الحزن والمصالحة تهب البهاء.

يأسف منْ يندم ويبقى كما هو. يفرح من يندم ويتوب. يبتهج من يعرف خطيئته ويقدر على تجاوزها. مؤلم أن نكتشف بُعدَنا عن الله، ومفرح أن نجد أنفسنا عائدين إليه.

لكن شتان ما بين الطريقين! بين طريق التبرير بعلل الخطايا وبين الاعتراف بوصية الله وقبولها. شتان بين واقعنا في الكسل البشري وبين مرتجانا في الدعوة الإلهية. عندما نعي هذا الفارق الكبير تتحرك نفسنا نحو التوبة.

التوبة إذن هي تغيير في الوجهة وتبديل في المسيرة التي نحدّدها لحياتنا غداً، بناء على رفض ما كان فيها بالأمس. التائب إذن هو الإنسان المتحرّك نحو الأفضل. التائب هو المتقدّم، في المعرفة في الحقّ في الحرّية وفي المثال الإلهي. هكذا تغدو التوبة عذبة، لأنّها تقودنا إلى الحقّ، والحقّ يحرّرنا، والإنسان عاشق الحرّية ومتمرّدٌ على العبودية.


الصوم إذن هو ممارسة لتحقيق هذه التوبة. لذلك يبدأ الصوم من "تبديل المعايير" لحياتنا. عمل الصوم هو تدريبنا على اختيار العفة، العفة في كل شيء: في الرغبات في المصالح في العلاقات... الصوم إذن هو العفة في "خيارنا" لكل حاجات حياتنا.


"تبديل المعايير" يعني تماماً "التوبة" = Metanoia = تبديل الذهنية. هذا التبديل يعني أن نجعل مثال الله مثالنا بعد أن كنّا ربّما قد جعلنا بشريتنا ورغباتها وجهتَنا! الصوم يمتحن فينا مقدار تعلّقنا بالطعام بدل كلمة الله ولحدّ ربّما مفرط! الصوم يمتحن تقديرنا للمجد الدنيوي، وتقديرنا للإحسان، وتقديرنا للمحبة وتقديرنا للاستهلاك. الصوم حركة تسليط نور قوي على حنايا نفسنا في داخلها العميق يكشف الرغبات الداخلية التي تحرّكنا.

عندما نصوم، وبشكل صحيح، نجعل ناموس الربّ نوراً لسبلنا! هذا النور القوي، وقوي جداً، يتسلّل إلى أعماقنا ويكشف كلّ الخلجات التي هناك في حقيقتها. هناك نعاين أنفسنا فنعمل برحمة الله ونعمته على تطهيرها.

عندما نصوم نحيا روحياً، وعندما نحيا بالروح نتحرّك إلى المثال الذي وهبه الله لنا، إلى كمالنا، عندها سنكتشف أنّ مفاهيم كثيرة عن معانٍ أساسية في الحياة ربما كانت مغلوطة.

عندما نصوم حقّاً ونمتنع عن الرشوة مثلاً أو الأرباح غير المشروعة، عندها نتكّل على عناية الله ولا نستند على المال فقط.

عندما نصوم حقاً ونمتنع عن المبالغة في الشبع حتّى الجشع، عندها نحدّد لأنفسنا أنّ طعامها الأساسي هو الكلمة التي تخرج من فم الله.

عندما نصوم حقاً ونمدّ يد المساعدة المادّية والمعنويّة للمحتاجين، عندها نعرف أنّ الآخر – المحتاج- هو رسالة أمامنا وليس مادة حرّة لاستهلاكنا.

عندما نصوم فنسامح من أساء إلينا، عندها نعرف أنّ المحبة الأخوية دائماً أثمن من الخطيئة، وأن المصالحة عفّة والخلاف إشباع شهوة غير طاهرة.

وهكذا نقضي الصوم الكبير، متصادمين مع الرواسب غير الإنجيلية التي تجمّعت في داخلنا. في الصوم نحيا الصراع بين ما نريد وما نحن عليه، بين النور والظلمة، بين الفضائل والرذائل. لكن النور أقوى من الظلمة لأن "كلمة الله" ألذّ من"الخبز". فهذا ضروري وتلك أفضل. الصوم ممارسة تفضح الظلمات التي فينا. الصوم يجعل ناموس الرب نبراسَ حياتنا. إذن الصوم استنارة. لهذا كانت فترة الصوم الكبير خاصة هي فترة الإعداد للمعموديات. ولهذا حافظنا في صلواتنا الصيامية على الدعوة إلى "الاستنارة" وإلى رفض الظلمة. الصوم القادم كبير، لهذا نوره كبير.

النور الكبير يشرق ونفوسنا تتباشر بالفرح لأن زمن الحرية آتٍ وظروف العبودية ستغيب. النور الآن في السحر ويوم الجهاد الروحي يبدو جميلاً. فلنخطُ بخطاً ثابتة، بتفاؤل، بشفافية، بتواضع. لنبسط نفسنا عارية أمام النور ولنترك ضعفاتها بصراحة بين يدي الله الذي سيمسّها بحنان الأب فيفتح بصيرتها فترى وتؤمن.

صلاتي الأبوية إلى جميعكم أن نسير معاً في هذا الصوم متدرّبين بواسطة الصيام على العيش في النور وتحطيم ألم الظلمة. "لا تكن فاتراً فأتقيأوك من فمي" (رؤيا 3، 16). لنكن إذن حارّين بالروح، ولنمارس الصوم ونمسح وجهنا بمسحة البهجة، حتى نكون في النور الكبير، ونوزع حولنا النور الكثير.

 
المربي سمير عبدو

أحّد الأرثوذكسيّة (تنصيب الأيقونات المقدّسة)

تتذكّر الكنيسة البيزنطيّة في هذا الأحد النقدّس انعقاد المجمع المسكونيّ السابع في مدينة نيقية (787) ضدّ بدعة محطّمي الأيقونات، وهي آخر بدعة اجتاحت الكنيسة الشرقية وقد دامت أكثر من قرن. وأعلن المجمع شرعيّة تكريم الأيقونات المقدّسة، لأنّ التكريم موجّه إلى القدّيسين الّذين تمثّلهم.

إنّ تكريم الأيقونات يهدف أوّلاً إثبات حقيقة التجسد. فتأمّل حقيقة مجيء السيد المسيح هو أساس إكرام الأيقونات. فالمسيح المتجسد هو الصورة الجوهرية، المثال الأصلي، لجميع الصور، ولنتذكر نحن أيضاً أننا أصبحنا بتجسد السيد المسيح على الأرض صوراً حية لله وإن كانت غير كاملة، لأن الإنسان الأوّل، آدم قبل الخطيئة، كان هذه الصورة التي أرادها الله في حياتنا، أي أن تكون حياتنا أيقونة لا عيب فيها، غير ملطخة بالأخطاء والشوائب. فالأيقونة تمثل النموذج الأصلي للإنسان.

لقد وضعت الكنيسة أحد الأيقونات في أول الصوم الكبير كي يرجع الإنسان إلى صورته الأصلية قبل السقوط. فحين نتأمل صورة قديس ما مرسومة على أيقونة، نتأمل أن هذا القديس بشر مثلنا. وبالرغم من جسده الترابي، عاش على الأرض كما يعيش الملائكة المجردون عن المادة. فنحاول أن تكون حياتنا أمام الآخرين أيقونة تمثل النموذج الأصلي للإنسان الأول، حتى نعكس صورة الله من خلالنا للآخرين، وأن تكون هذه الأيقونة نافذة على السماء، وأن نكون الصورة التي يرى الناس من خلالنا حقيقة الله العلوية التي خلقت على مثاله.

نتذكر في هذا الأحد من الصوم أن الإنسان أجمل أيقونة صنعها الله في هذا الكون. وتأمّلنا يقودنا إلى تأمل البيئة التي حولنا. فعندما نتأمل الأيقونة، نرى فيها تقديس الإنسان والطبيعة بأسرها من نبات وحيوان. أما النبات فهو الخشب الذي تصنع منه الأيقونة. المعادن هي الألوان التي تلون الرسم، والقماش والجلد والغراء مأخوذة من الحيوان. وجوهر الأيقونة نشاهد فيه الإنسان. فإكرام الأيقونات هو إكرام البيئة والإنسان في آنٍ واحد. والمجمع الّذي دافع عن تكريم الأيقونات دافع عن البيئة والكائنات الحية كلها. فالأيقونة تحمل في بنيتها آثاراً من الخليقة كلها. والطبيعة هي أجمل أيقونة خلقها الله لنا، لأنها تعكس جمال الله وروعته.

لقد تحولت الطبيعة منذ معصية آدم من صورة النعمة والسعادة والجمال إلى صورة الخطيئة والشقاء والقبح. وهذا التشوه في صورة الطبيعة يزداد في أيامنا نحن، حتى أصبح الإنسان يحن إلى صورة الإنسان الأول البدائي الذي كان متصالحا مع الطبيعة، يعيش حياة بسيطة، تأتيه فصولها في أوانها، وتأتيه الثمار في أوانها أيضاً. فالإنسان والطبيعة حلقة متكاملة في مسيرة في هذه الحياة.

قلنا إن الحيوان حاضر في الأيقونة من خلال الغراء والجلد. وعالم الحيوان يعكس أيضاً صورة الله، وهو مدعو إلى العيش في سلامٍ مع الإنسان. فقبل الخطيئة، كانت وحوش البرّية تعيش علاقة غير دموية مع الإنسان. ومع الخطيئة، تحولت العلاقة إلى علاقة دموية من أجل تقديم الذبائح لإرضاء الله. واستمرت العلاقة إلى يومنا هذا. لقد انتهت الذبائح وحلت محلها المتعة الشخصية في الصيد والقتل من أجل الشعور بالقوة.

لقد عاش القديسون والنساك الذين تصورهم الأيقونة العلاقة الأولية التي كانت بين آدم والحيوان قبل دخول الخطيئة إلى حياة آدم، علاقة مودة ومساعدة وعناية. ومن أمثال هذه العلاقة، القديس سمعان والأسد الداجن.

في هذا الأحد، لتكن صلواتنا من أجل بيئتنا حتى تعود إليها صورة جمال أيقونتها خالية من التلوث. ولنرفع صلواتنا لنرى في ما صنعته يدا الرب صورته القدوسة.

أحد الذخائر المقدسة

في هذا الأحد المبارك، تكرم الكنيسة الشرقية الذخائر المقدسة. وقد أمر بإقامة هذا العيد المطوب الذكر البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم سنة (1843) ونظم الاحتفال به وجمع وألف القطع التي تتلى في هذا الاحتفال.

إن الكنيسة، عندما وضعت في الأحد الثاني تكريم الذخائر المقدسة، أرادت تذكير الإنسان بأنه مقدس. وعندما تأملنا في تكريم الأيقونات، رأينا أن الإنسان هو أجمل أيقونة صنعها الله، وأنه صورة الله ونافذة على السماء للآخرين. في هذا الأحد، تحث الكنيسة المؤمن وتذكره بأن جسده هو هيكل الروح القدس. فحين نقف أمام ذخائر قديس نشعر بعظمة وخوف ووقار. لنتأمل كم هو عظيم ومقدس هذا الجسد الذي نحمله في حياتنا. فنحن نحمل فيه نعمة الروح القدس الذي حل فينا في سر المعمودية والتثبيت. ولنتأمل كيف أننا نجعل هذا الجسد مسكناً للشيطان حين نستعمله لأغراض ومصالح نضر بها أنفسنا والآخرين، وعندما نستعمل الجسد من أجل اللذة فقط بدون احترام لخالقها وللروح القدس الذي هو مسكنها.

في هذا الأحد نتأمل أن القديسين الذين نكرم أجسادهم لم يتمتعوا بأجساد خارقة للطبيعة بل بأجساد مثل أجسادنا، معرضة للشهوات والأمراض والتجارب. بل يحمل أحياناً جسداً ضعيفاً ومريضاً. لكنه كان يعمل ويتعب ويصلي ويطلب معونة الروح القدس الذي جسده هو هيكله. فقد كان يصون جسده من الخطيئة، ويحول شهواته إلى نعم بدل الخطيئة. لنجعل إذاً تأملنا في هذا الأحد المقدس بالنعم والبركات التي نحملها في أجسادنا، ولنجعل من أجسادنا مكاناً للنعمة.

في هذا الأحد، نتذكر أن الذخيرة ليست من جسد القديس فقط، بل من البيئة التي عاش فيها: أدواته، ثيابه، أثاث مسكنه ... كم من القديسين بقيت ثيابهم بدون أن يصيبها البلى، وأصبحت أداة ينال المؤمن منها بركة. إذاً فالطبيعة تتحول بفضل الإنسان وقداسته إلى ذخائر مقدسة. ولكنّها قد تتحول أيضاً بسبب الإنسان إلى مصدر خطيئة وشقاء، حين يستعملها لمصلحته ولتدمير الآخرين.

فلنجعل تأملنا وصلاتنا في هذا الأسبوع من أجل تقديس أجسادنا والبيئة التي نعيش فيها، ولنتذكر دوماً قول القديس بولس: «أما تعلمون أن أجسادكم هي هياكل للروح القدس».

الأحد الثالث، السجود للصليب الكريم

في منتصف الصوم، تنصب الكنيسة أمامنا صليب المسيح حتى تذكر المؤمنين بدور الصليب في تاريخ الخلاص، واستعدادهم لرؤية هذا الصليب الذي سيقام يوم الجمعة العظيمة.

إن الكنيسة، عندما وضعت في منتصف الصوم الكبير أحد السجود للصليب الكريم، تذكرنا هل أنا مستعد لأن أتبع المسيح حاملاً الصليب، لا الصليب الذي أكون قد اخترته أنا، بل الصليب الذي يضعه هو نفسه على كاهلي. هل أنا مستعد أن أقبل جميع المحن والآلام التي يمكن أن تطرأ علي كالاشتراك في الصليب المخلص؟ وعندما أدنو من هذا الصليب المعروض في وسط الكنيسة وأقبله، هل ستكون قبلتي قبلة خاطئ غير تائب، قبلة يهوذا، حركة سطحية لا تغير شيئاً في حياتي؟ أم علامة سجود وإيمان تلزم وجودي برمته؟ وأن نقبل بثقة إلى عرش النعمة لننال غفران خطايانا بما أن يسوع هو كاهننا العظيم، كما هو موضح في الرسالة إلى العبرانيين (عب 14/ 5-6) «فإن الحبر الذي لنا ليس ممن لا يستطيع أن يرث لأمراضنا، بل قد جرب في كل شيء مثلنا ما خلا الخطيئة»

في هذا الأحد، لا يكن تأملنا للصليب المقدس الذي صلب عليه المسيح من أجل حلاصنا فقط بل من أجل خلاص الخليقة كلها. فالخليقة كلها أصبحت خاطئة ومشوهة عندما أخطأ آدم وحواء، وأصبحت ملعونة بسبب خطيئتهما كما هو موضح في سفر التكوين (تك 3/ 17-18) «وقال الرب لآدم: لأنك سمعت كلام امرأتك فأكلت من الشجر الذي أو صيتك أن لا تأكل منها، تكون الأرض ملعونة بسببك، شوكاً وعوسجاً تنبت لك، ومن عشب الحقل تقتات» وهذا واضح أيضاً في الرسالة إلى العبرانيين (عب 6/ 7-8) «فكل أرض شربت ما نزل عليها من مطر مرارا وأطلعت نباتا صالحا للذين فلحت من أجلهم نالت بركة من الله. ولكنها إذا أخرجت شوكاً وعشباً ضاراً، فهي مرفوضة تهددها اللعنة ويكون عاقبتها الحريق»

فالخليقة كلها تنتظر بفارغ الصبر المخلص الذي سيخلصها من اللعنة والتشوه والدمار الناتجين عن خطيئة آدم، كما يوضح القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومة (8/ 19-21) «فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله. وما كان خضوعها للباطل بإرادتها بل بإرادة الّذي أخضعها. ومع ذلك، بقي لها الرجاء أنها هي ذاتها ستتحرر من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله في حريتهم ومجدهم.» وعندما ضحى الرب يسوع المسيح بنفسه على الصليب بطاعته ورغبته من أجل خطايانا، أنقد أيضاً الخليقة كلها من أعمال الشرير، وأرجع إليها جمال الطبيعة وصفائها وبراءتها وكرامتها وقدسيتها، وبهذا نكرم الصليب المقدس ليس لأنه خلصنا نحن البشر فقط من آثامنا، بل لأنه خلص الخليقة كلها، أي كل الكائنات الحية وغير الحية.

فلنتأمل في هذا الأسبوع بالصلاة التي نرددها في درب الصليب: لأنك بصليبك المقدس خلصت العالم، حتى نعيد كرامة بيئتنا وقدسيتها وصفائها، ولنجعل مقصد حياتنا نشيد مار فرنسيس للمخلوقات.

 
ميشيل فرنسيس

هو علاقة إيمان وعلامة إيمان في آن معا. علاقة إيمان لأنها علاقة مع شخص يسوع المسيح الحاضر معنا والذي ننتظر حضوره في فترة ليست بعيدة أو لنتذكر حضوره على أرضنا من خلال الاحتفال بتذكارات حضوره معنا على هذه البسيطة مثل: الميلاد، والقيامة، والصعود... وهو علامة إيمان لأنه يعبّر بشكلٍ محسوسٍ عن أمورٍ غير محسوسة، عن العلاقة مع الله. فالصوم هو علامة انتظار لحضور الله بشكل مكثّف . ولكن لا يغيب عن ناظريّ المؤمن حضور الله في القريب المحتاج، وبذلك فالصوم هو أيضاً علاقة حبّ وانفتاح القلب على القريب المتألم والمحتاج لأشاركه في خيراتي الروحيّة والماديّة.

فنعبّر في الصوم من خلال انقطاعنا عن بعض الأطعمة، على أنّ الطعام الذي نأكله والذي هو عنصر للحياة ليس هو الذي يعبّر عن رغباتنا العميقة، فحياتنا ترغب في الله الذي هو حياتنا ومعناها ومحييها.

نبتعد عن وجهٍ من وجوه الحياة لنقول أننا لا نبغي وجوه الحياة المتعدّدة، وإنما نبغي الحياة بذاتها وهي شخص يسوع المسيح. ومن وجوه الحياة: الطعام، والعلاقات الجنسيّة، والشراب، والنوم، واللباس و... فالصوم هو علامة على انتظار المسيح الحاضر والغائب، وهو تعبير عن إيماني بالحياة ما بعد الموت.

والسؤال: ما هو رمز التعلّق بالشراب والطعام واللباس والعلاقات الجنسيّة،...؟

لا يمكن اقتفاء أثر هذه الأمور إلاّ من خلال مسيرتها اليوميّة فهي عناصر ضروريّة للحياة. تعبّر عن رغبة الإنسان في الحياة. ولكن إذا تمادى الإنسان في تعلّقه قي إحدى هذه الوجوه فما ذلك إلاّ لشعوره بأنّ حياته مهدّدة وخالية من السلام.

فعدم وجود السعادة في واقع حياة المرء تدفعه ليقطف وجهاً من وجوهها الحاضرة أمامه: مأكل، أو مشرب... ولكن لا يجد الإنسان تغيّراً في واقعه، فقلقه يستمر، لذلك يقف أمام خيارين: إمّا أن يصغي إلى ذاته، إلى حياته بكل ما فيها من آلام وأفراح، ويسعي لمعرفة باطنيّة لهذه الحياة. أو أن يهرب نحو وسائل تخدّر ما فيه من قلق واضطراب.

فعندما يعيش الإنسان قلقا تجاه حياته فما ذلك إلاّ لكونه قد وعى بأنّها ليست منه، ولن تستمر على الأرض بشكلها الراهن. ولذلك قد يغوص الإنسان في وسائل تخدير للهروب من هذه الحقيقة. مع أنّ حياة الإنسان ليست فانية لكنها تمرّ بالموت لتصل إلى الحياة التي تفيض بالفرح والسلام حيث يجد الإنسان ذاته العميقة. وما الصوم إلاّ شكلاً من أشكال الموت الذي يرمي الإنسان من خلاله الوصول الآن وهو على هذه الأرض إلى تذوق نبع الحياة الذي يجري في أعماقه ويتجاوزها.

 
المطران يوسف أنيس أبي عاد
- سر التوبة والمصالحة: نظرة لاهوتية

2- الصعوبات التي تعترض هذا السر

  • العقلية السائدة التي تقول بإمكانية الحصول على المغفرة من الله رأساً.

  • الاكتفاء بأعمال التوبة دون قبول السر.

  • الاكتفاء بالمشاركة بسر الافخارستيا للحصول على المغفرة.

  • تشويه مفهوم الندامة.

  • تشويه معنى الكفارة.

  • صعوبات نفسية.

3- دور الكاهن خادم السر

أولاً- سر التوبة والمصالحة

نظرة لاهوتية

السؤال: ما هو المهم في سر التوبة والمصالحة وفي ممارسته الصحيحة؟

الجواب: يعرض الإرشاد الرسولي وسيلتين مهمتين لبلوغ هذه الغاية وهما التعليم المسيحي، والحوار . فالتعليم المسيحي هو من أجل أن يكون المؤمن عالماً بأهمية هذا السر و قدسيته ومفاعيله ،أما الحوار ،فلكي يستطيع كل إنسان انطلاقاً من وضعه الخاص، أن يتفهّم هذا التعليم ويأتي بلهفة إلى قبول هذا السر.

- يتم هذا التعليم المسيحي من خلال مبادرات عديدة في الوعظ والمحاضرات والمناقشات والمباحثات ودورات الثقافة الدينية ... وفي إقامة الرسالات الشعبية والرياضات الروحية على مستوى المجموعات المنظمة أو التجمعات التلقائية.

- أما الحوار فيمكن أن يتم في أي وقت ومكان، لكن الحوار الأهم هو الذي يتم في أجواء سر التوبة بالذات حيث نعمة السر تُلهِم المرشد والتائب إلهاماً خاصاً.

- وإلى جانب توضيح معنى الخطيئة ومفاعيلها، يركّز التعليم المسيحي على وجهين متكاملين من سر التوبة وهما "عمل" التوبة و "إحلال" المصالحة.

أ‌- عمل التوبة :

التوبة تعني من خلال الإنجيل المقدس، التغيير الذي يحدث في أعماق القلب تحت تأثير كلام الله و بالنظر إلى الملكوت (متى 4/17)، وتعني أيضاً تغيير الحياة تجاوباً مع تغيير القلب. إنما هذا التغيير لا يكون صحيحاً ما لم يترجم إلى أعمال توبة: "اعملوا أعمالاً تليق بالتوبة" (لوقا 3/8).

ومن هذه الأعمال: الجهاد الروحي ascèse أي الجهد اليومي العملي، الرامي بمساندة النعمة، إلى إهلاك الحياة من أجل المسيح، فإن هذه هي الطريقة الوحيدة لإيجادها (متى 16/24)، وقمع ما هو جسدي، وتغليب ما هو روحي و التسامي باستمرار فوق ما هو أرضي سعياً إلى ما هو في العُلى حيث المسيح (كولوسي 3/1).

فالتوبة هي ارتداد، وباليوناني (متانويا)، والكلمة تعني حرفياً: انقلاب النفس واتجاهها نحو الله. ولابد من استعدادات لهذا الارتداد، وعلى التعليم المسيحي أن يشرحها بمفاهيم تتوافق ومختلف الأعمار وتنوع الأحوال على الصعيد الثقافي و الأخلاقي و الاجتماعي.

ب‌- المصالحة :

مصالحة الإنسان مع الله ، مع إخوانه ، مع ذاته و مع الخليقة كلها ... والمصالحة لكي تكون كاملة تستدعي التحرر من الخطيئة التي يجب رفضها في أعماق جذورها. وفيما يحثنا المجمع على السعي إلى المصالحة بكل قوانا، ينبهنا إلى أنها قبل كل شيء، عطية يجود الله بها علينا, فالله هو الذي صالحنا بالمسيح وأعطانا خدمة المصالحة ... (2قور5/18) فبهذه العطية تُفضّ الكثير من الخلافات وتحسم العديد من النزاعات وتمّحي الانقسامات صغيرة كانت أم كبيرة، وتُسترجع الوحدة ... وقد شدّد يسوع على موضوع المصالحة الأخوية عندما تكلم عن تقدمة الخد الآخر، وترك الرداء لمن يطلب الثوب، ووجوب المغفرة حتى للأعداء مرات لا عدّ لها ... (متى 5/38-48)

وهناك أيضاً مصالحة على مستوى العائلة البشرية جمعاء، ومن خلال ارتداد قلب كل من الناس، وعودته إلى الله. فَوَحْدة البشر لا يمكن أن تتحقق ما لم يغير كلٌ من الناس ما في نفسه.

وباعتقادنا أن المصالحة السرية، التي تُعطى لأبناء الكنيسة, تتحول إلى ينبوع للمصالحة العامة, إذ أن النعمة التي تُوهب لهؤلاء الأبناء تصبح خميرة روحية تُفصح من جرّاء وجودها عن إمكانية تصالح الناس مع بعضهم على غرار ما يقول بولس الرسول :" ذلك فإن الله كان في المسيح يسوع مصالحِاً للعالم وغير محاسب لهم على زلاّتهم، ومستودِعاً إيانا كلمة المصالحة (2قور 5/19)

فالغفران المُعطى للمؤمنين من خلال سر التوبة، فيما يكون فيهم منبع سلام وراحة، يشير بالوقت نفسه إلى أنّ الخلاص دخل إلى العالم وبدأ يعمل عمله فيه.

التعليم المسيحي وممارسة التوبة :

أ- أصل هذا السر :

سر التوبة يتأصّل في ذبيحة المسيح الخلاصية: "اشربوا منها (الكأس) كلكم فهذا هو دمي دم العهد الذي يُراق من أجل جماعة الناس لغفران الخطايا" (متى 26/27-28)

مغفرة الخطايا سلمها يسوع، بواسطة الروح أناساً بسطاء ، مُعرَّضين للوقوع في الخطيئة، أعني رسله، بقوله لهم: "اقبلوا الروح القدس ، من غفرتم خطاياه غُفرت له، ومن أمسكتموها عليه أُمسِكت" (يوحنا 20/22).

"فلقد خوّل يسوع الرسل هذا السلطان - الذين بإمكانهم نقله – على ما فهمت الكنيسة ذلك منذ فجر وجودها – إلى خلفائهم الذين تلقّوا من الرسل أنفسهم رسالة مواصلة عملهم ومسؤولية هذا العمل العادي، بوصفهم مبشرين بالإنجيل و خَدَمة فداء المسيح

ب- سر التوبة هو الطريق العادي لنيل الصفح و الغفران :

فليس من الحماقة إذاً و حسب، بل من الاعتداد الباطل ترك أسرار النعمة والخلاص التي رسمها الرب، وإهمالها كيفياً، والادّعاء بقبول الغفران من دون اللجوء إلى السر الذي رسمه السيد المسيح "فالكلام الذي يعرب عن الحَلّة، عند منح هذا السر، و الحركات التي ترافقه يدل، في عظمته، على بساطة لها معناها:

 "أغفر لك"، أو "ليَغِفر لك الله" ... ووضع اليد، و إشارة الصليب المرسومة على التائب هذا كله يدل على أن هذا الأخير يتلقّى قوة الله ورحمته وفيها يُمنح ما في آلام المسيح وموته وقيامته من قوة خلاصية.

ج- سر التوبة والنقاط الأخرى المتداخلة فيه:

هناك نقاط أخرى في سر التوبة والمصالحة: كنوعية هذا السر ودوره وأعمال التائب... سيأتي ذكرها في العناوين اللاحقة.

ثانياً- الصعوبات التي تعترض هذا السر

1 - الحصول على المغفرة من الله رأساً

السؤال: لستُ أرى نفعاً لسر التوبة، طالما أني حاصل على الغفران من الله مباشرةً. فلماذا الإلحاح على اقتبال هذا السر؟

الجواب:

أ- نظرة تاريخية

إن سر التوبة وُجد في الكنيسة منذ العصور الأولى، وقد وُجدت وثيقة قديمة منذ حوالي سنة 150 في روما هي كتاب "الراعي لهرماس"… الذي يطرح السؤال على إمكانية منح سر التوبة للذين أخطأوا بعد العماد… ثم جاء ترتليانوس بأطروحته عن التوبة يرفض فيها مصالحة الخاطئ خاصة إذا ما اقترف إحدى الخطايا الثلاث: الزنى أو القتل أو الجحود. لكنه بعد موجة الاضطهاد القاسية التي حدثت في منتصف القرن الثالث من قبل الإمبراطور داسيوس (250-253)، وسقط الكثيرون في خطيئة الجحود، قام القديس قبريانوس يكتب ويدعو إلى إعادة الساقطين تحت وطأة الاضطهاد إلى حضن الكنيسة ومنحهم المصالحة. ووافقت الكنيسة على ذلك في مجمع قرطاجة عام 251، وقبلت بأن يُمنح سر التوبة مرةً واحدة في الحياة فقط.

إلى أن أتى الرهبان الارلنديون في منتصف القرن الخامس، وعمّموا مبدأ التوبة الشخصية الخاصة حيث يوجد الكاهن والتائب وجهاً لوجه بمعزل عن الناس، فيصغي الكاهن إلى اعتراف التائب ويفرض عليه كفّارة مناسبة غالباً ما كانت مُضنية للحصول على الندامة الكاملة… ودخل في هذا الاعتراف السري جميع أنواع الخطايا…

وسارت الأمور على هذا المنوال مع تطورات طفيفة إلى أن جاء مجمع اللاتران المنعقد سنة 1215 فأعطى قراراً يُلزِم كل مؤمن بعد بلوغه سن التمييز أن يعترف بخطاياه وجهاً لوجه إلى الكاهن أقلّه مرة في السنة … وأصبح عمل الاعتراف هذا سراً من أسرار الكنيسة السبعة...

وجاء الإصلاحيون وبالأخص مارتن لـوتر (1483-1546)، فأصدر كتابه عن "أسر بابل" عام 1520 رافضاً فيه الأسرار البيعية السبعة ومكتفياً فقط بالسرين الأساسيين العماد والافخارستيا، ومبرراً عمله هذا بأن المسيح لم يرسم بذاته سر التوبة، وبالتالي يمكن الاعتراف إلى الله مباشرة والاكتفاء بأعمال التوبة التقليدية.

لكن الكنيسة الكاثوليكية لا تزال على ما حددته المجامع الكبرى المسكونية، فكان رد واضح في المجمع التريدنتيني على مزاعم الإصلاحيين الذي وسَّع تعاليم مجمع اللاتران وأتت المجامع الأخرى لكي تثبِّت هذه التعاليم.

ب - الفحوى اللاهوتي

تعتبر الكنيسة أنّ الإنسان عندما يرتكب خطيئة ما ثقيلة فإنما يخَطأ ضد الله وضد الكنيسة في آن... وبالتالي ضد البشرية كلها والعالم... لذلك فهو لا يستطيع أن يُصالح نفسه بنفسه مع الله والآخرين. فسلطان "الحل والربط" (يوحنا 20/23) أعطي للرسل وخلفائهم في الكنيسة لكي يعملوا به حسب الأصول المرعية، فيصالحوا التائب باسم المسيح ويردّوه إلى الحظيرة البيعية بواسطة سر التوبة والمصالحة فيعود إليها مسترجعاً مكانته الأولى وكرامته.

2 - الاكتفاء بأعمال التوبة


السؤال: طالما أن هناك أعمال توبة واردة في الكتاب المقدس والتعليم الكنسي، فلماذا الاعتراف؟


الجواب:

إن أعمال التوبة هي بالواقع كثيرة وتعترف الكنيسة بقيمتها وتشجع المؤمنين عليها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الصوم والصلاة والصَدَقة... ولهذه الأعمال الثلاثة مفاعيل كبيرة مُعترف بها منذ القديم.

ونضيف إلى هذه الأعمال: - الجهود الحثيثة المبذولة من أجل مصالحة القريب والاهتمام بخلاصه. - اللجوء إلى شفاعة القديسين – ممارسة أعمال المحبة – ممارسة العدالة والحق والدفاع عنهما – الإقرار بالذنوب أمام الآخرين والتأديب الأخوي – احتمال الأوجاع والاضطهاد...

وما يغذي عمل التوبة المستمر أيضاً: قراءة الكتاب المقدس، وليتورجيا الساعات وكل أعمال التقوى والعبادة، والقيام بزيارات حج وبأعمال رسولية وخيرية إلخ...

لا يخفى ما لهذه الأعمال من فعّالية لكي تضعنا في أجواء التوبة المستمرة، كما يحصل للقديسين، الذين يمارسون هذه العمال بطريقة دائمة... ويمكن ممارسة مثل هذه الأعمال قبل الإقبال على سر التوبة أو بعده... لكن الخطيئة المميتة إذا ما اقتُرِفت فلا يمكن محوها إلا بالرجوع إلى السر المقدس وسر التوبة والمصالحة...


3 - الاكتفاء بسر الافخارستيا وحده "لمغفرة الخطايا"


السؤال: أنا لا أشعر بحاجة إلى الاعتراف، بل أكتفي بالمشاركة في سر الافخارستيا، ألم يقل يسوع:

 "خذوا واشربوا هذا هو دمي الذي يبذل لأجلكم لمغفرة الخطايا؟". (راجع متى 26/28)

الجواب:

نحن نعلم أنه في سر الافخارستيا، وخاصة في قسم التقديس، يتم للإنسان أن يُقدِّم نفسه مع المسيح المذبوح، "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله" (روما 12/1)... يقدم ذاته كما هي مبرَّرة كانت أم خاطئة، ويحصل من ثم على نعم ذبيحة المسيح والقداسة النابعة منها... وكذلك في المناولة فإنه يتحول بنعمة هذا الزاد القدوس إلى إنسانٍ بار ساعٍ نحو الكمال، وقادر ان يشارك في تقديس الآخرين والعالم.

لكن قُدسية سر الافخارستيا بالذات تفترض من أجل المشاركة به، نقاوة مُسْبقه في القلب والضمير، ومحو الخطايا وخاصة المميتة منها تجاوباً مع نداء القديس بولس: "فمن أكل خبز الرب، أو شرب كأسه ولم يكن أهلاً لهما فقد أذنب إلى جسد الرب ودمه." (1قور 11/27).


4 - تشويه مفهوم الندامة


السؤال: كيف أستطيع أن أندم ندامة كاملة طالما عندي قناعة أني سأرجع إلى الخطيئة فيما بعد، وأنا مازلت أرتكب الخطايا نفسها؟...

الجواب:

هذه المشكلة صعبة وأساسية، إذ أن الندامة ليست مُجرّد شعور بالخجل أو بالألم أو بالكآبة أو بفداحة الأعمال المرتكبة وشناعتها، هي قبل كل شيء: رفض الخطيئة رفضاً قاطعاً.

وتقترن الندامة بالقصد الثابت أي بعزم التائب ألاّ يعود إلى ارتكاب الخطيئة... ولا يمكن للتائب أن يكوّن هذا القصد إن لم يتأمّل بقداسة الله ويقترب من محبته... ويفكّر من ثم بحقيقته الباطنية الخاصة التي أقلقتها الخطيئة وقلبتها، تفكير كهذا يؤجِّج فيه الحنين إلى البيت الأبوي مثل "الابن الشاطر" فيطلب التحرّر من أعماقه، ويعود إلى أبيه ويستعيد مكانته المفقودة، وفرحه العميق، فرح الخلاص. ولا ننسَ أن الندامة قبل أن تكون عملاً شخصياً محضاً، فإنها أصلاً دعوة من الروح القدس ونعمة من قِبَلِهِ.

وإلى الذي يقول إني لا محالة سأعود إلى الخطيئة ذاتها، نجيب: أولاً اشكر الله إلهك لأنك لم تقترف خطايا جديدة... ثم تذكّر كم من مرة ساعدتك النعمة أن لا تقع بهذه الخطيئة نفسها فانتصرتَ على تجاربها وإيحاءاتها، وإذا صدف أنك عُدْتَ إليها، أفستبقى فيها معذّباً أو بعيداً... فما أحرى من سر التوبة أن يساعدك على النهوض وبخاصة متى كانت الخطيئة "ثقيلة"...


5 - تشويه معنى الكفَّارة


السؤال: لست أفهم معنى الكفّارة، لأن البعض يقول إنها تشبه نوعاً من "التسعيرة" لكل من الخطايا؟

فما رأيكم؟...

الجواب:

الكفّارة هي الفصل الأخير الذي يتوّج العلامة السرّية للتوبة. ويُعنى بها الأعمال التكفيرية التي يفرضها الكاهن على التائب قبل أن يعطيه الحَلّة. فقد تكون الكفارة مُجرَّد صلاة يطلبها الكاهن أو أعمالاً تعويضية عن الضرر الناتج عن الخطيئة إلى ما هنالك.

ليست الكفارة إذاً الثمن الذي يدفعه التائب عن خطيئته، فذبيحة المسيح وحدها هي الثمن (1يوحنا 2/2)، ولكن الكفارة المُعطاة للتائب هي علامة الالتزام الشخصي ببدء حياة جديدة ، شيمتها إماتة الجسد والذات، إذ أنه تبقى بعد الحلة منطقة مظلمة عند التائب ناتجة عن الجراح التي أوجدتها الخطيئة. وهذه الأخيرة تستوجب تسليط أنوار محبة المسيح عليها بالصلاة المتحدة بصلاة الروح القدس (الذي يصلي فينا بأنّات لا توصف: روما 8/26) وبأعمال بر وصلاح تشير إلى فرح المصالحة السرية وتُغذّيه في آن.


6 - صعوبات نفسية


أ- الخوف من مواجهة الذات

هناك بعض الأشخاص الذين يخافون من مواجهة ذواتهم والدخول إلى أعماقها، كي لا يروا الظُلُمات الداخلية فيفزعون. لذلك يديرون وجوههم عنها لكي لا يروها، فيعتقدون أن المشكلة قد حُلّت.

ب- اللامبالاة

منهم من يرى الأعمال والأقوال التي اعتادها المجتمع بأنها "عادية". لا بل قد يعطيها معنى إيجابياً : "شطارة"، "بدنا نعيش"، "ليش لأ" ، "أشكر ربك نحن أحسن من غيرنا" ... و إلى ما هنالك. لذلك فهم لا يشعرون بأنهم خطئوا أو ابتعدوا عن الله. وهناك آخرون، عن طيب نية، يقولون: "ما عندي خطايا: ما سرقت ولا قتلت ولا زنيت"...

ج- الحياء من جراء الإقرار بالخطايا

وهذا هو العائق الأهم بنظرنا... لذلك منهم من يقول إنّ المسيح أوصى بالتوبة لا بالإقرار، ومنهم من يطالب بتبديل صيغة الإقرار وتخفيفها فتُصبح كما هو معمول بها في الكنائس الأرثوذكسية.

د- الخوف من مواجهة الكاهن

إما عن خوف وإما من داعي عدم كشف الذات أمام إنسان آخر؛ أو يُعتقد بأن الكاهن بعد الاعتراف، سوف ينظر لنا نظرة توحي بأننا مكشوفون أمامه؛ أو أنّ البعض يقول: "من هو هذا الكاهن الملاك والقديس لكي أعترف له بخطاياي؟...

الجواب: على هذه الأسباب النفسية

أ- الهروب من الذات

الهروب من الذات هو كسياسة النعامة... فإذا كانت الخطيئة مميتة، فلا ينفع الهروب منها، لأنها تبقى في الضمير أداة تأنيب واضطراب... إلاّ إذا فَسُد الضمير كلياً، فلا يبقى للمؤمن إلاّ نعمة الله الخاصة شرط أن لا يهرب منها التائب عندما تحل عليه.

ب- اللامبالاة

القسم الأول من هذه الصعوبة "شطارة... ونحن أحسن من غيرنا"، هي أشبه بالمزحة منها بالحقيقة... فهي لا تصمد أمام ارتكاب خطيئة ثقيلة.

أما عن القسم الثاني فإننا نقول إنّ فحص الضمير لا يمكنه أن يتجاهل مقاربة الشر والخطيئة، وهذه الأخيرة لا تكون بالفعل فقط، بل أيضاً بالفكر والقول والإهمال. (راجع متى الفصل 5/21-48: "سمعتم أنه قيل، أما أنا فأقول لكم...")

ج- الإقرار بالخطايا

أما عن صعوبة الإقرار بالخطايا، فإنها لا تخفى على أحد... فبعض الروحيين يُدخِلون المعاناة من هذه الصعوبة في المشاركة الشخصية بالتكفير عن الخطيئة...

لكن سر التوبة هو نوع من العمل القضائي لدى محكمة "سريّة" هي محكمة رحمة أكثر منها محكمة عدالة خارجية أو ضيقة. والمقارنة مع المحاكم البشرية هي من باب الاستعارة ليس إلا. فمنح المغفرة يتطلب معرفة ما في قلب الخاطئ ليمكن حَلُّه ومصالحته وشفاؤه... فالعلوم الإنسانية، وبخاصة تلك التي تتعاطى التحاليل النفسية، تتطلب هي أيضاً إقراراً "كاملاً" من قِبَل الشخص المُقبِل عليها للاستفادة منها.

وهذا الإقرار السِرّي ينتزع بالوقت عينه الخطيئة نوعاً ما من أعماق القلب الخفية ويشدّد على طابع الخطيئة الشمولي والاجتماعي، إذ أنّ هذه متى ما اقتُرِفت طالت قلب الله والكنيسة وبالتالي البشرية والكون.

لذلك فإن الجماعة الكنسية نفسها هي التي تستقبل، بواسطة خادم السر، الخاطئ التائب وتمنحه المغفرة باسم المسيح. وإذا صحّ ما قيل: إنّ العالم والبشرية خُلِقا من أجل الكنيسة، فإن المصالحة مع الكنيسة هي المصالحة مع البشرية والكون برُمتّه.

د- الخوف من الكاهن

- لا بُدَّ هنا من الأخذ بعين الاعتبار شخصية الكاهن: إنه شخص مُميَّز في الكنيسة. هو حامل سر الكهنوت المقدس، الذي يصيّره "أخاً روحياً ومعلماً وأباً" ،ويمنحه سلطان "الحل والربط" وهذا ليس بقليل.

- وبالإضافة إلى ذلك فإنه ملزم كلياً بالحفاظ على سر التائب حفاظاً تاماً...

- وإذا صحّ الاعتقاد بأن نظرته إلى المؤمن ستتغيّر بعد سماع اعترافه، فإنه (أي الكاهن) يكون عندها في حال الخطأ أو الخطيئة... وغالباً ما يكون العكس تماماً، إذ إن الكاهن عند قيامه بخدمة سر التوبة، يشعر أحياناً كثيرة بالنعمة الفاعلة في قلب التائب ووجدانه، وهذا الشعور يعوم فوق كل خطيئة يسمعها، ويُعتبر من مفاعيل النعمة الحالية المتأتية من سر الكهنوت بالذات.

ثالثاً- دور الكاهن بشكل عام

وبمناسبة الرد على هذه الأسباب لا بد لنا من أن نتوقف على دور الكاهن لما له من أهمية في منح هذا السر المقدس. فالتعليم المسيحي المُعطى جماعياً لا يكفي وحده... بل يجب أن تُؤمَّن ظروفٌ يلتقي بها الكاهن والمؤمن ويتبادل وإياه في شؤون حياته الإيمانية الشخصية. وسر التوبة والمصالحة يتيح لهما مناسبة فريدة يضفي عليها السر قدسية خاصة، فيتم فيها إصغاء كبير من قِبل الكاهن، وتفهّم عميق لحالة التائب، وإعطاء تعليم الكنيسة وتلقّيه بطريقة مُشخْصَنة والتشديد على الرحمة الإلهية وفرح الله والملائكة والقديسين لعودة الخاطي. ولهذا الدور، علاوة على ما ذكرنا أعلاه أوجه عديدة أهمها:

1- التشبه بالمسيح :

- إن الكاهن، خادم التوبة، مثله على المذبح حيث يحتفل بالإفخارستيا، يعمل "بشخص المسيح" ... والمسيح الذي يحضّره الكاهن والذي يتم بواسطته سر مغفرة الخطايا، يبدو:

- أخاً للإنسان( متى 12/49-50 ، روم 8/29)

- حبراً رحيماً أميناً شفوقاً ( عبرا2/17)

- طبيباً يشفي و يقوي ( لوقا 5/31)

- راعياً يسعى دائماً وراء النعجة الضالة ( لوقا 15)

- معلماً أوحد ... يرشد إلى سبيل الله (متى 22/17)

- قاضياً للأحياء و الأموات ( أعمال 10/42)

- حاكماً يحكم بالحق و ليس حسب الظواهر (يوحنا 8/16)

2- أعمال الكاهن :

1- الإطلاع على نقائص المؤمن و زلاته

2- تقدير رغبته في النهوض و ما يقتضي له من حهود .

3- تبيّن عمل الروح القدس في قلبه – و نقل الغفران إليه

4- تشجيع التائب على عدم الرجوع إلى الخطيئة

3- صفات الكاهن:

"خدمة الكاهن هذه هي أصعب خََدَماته وأكثرها دقةً وإرهاقاً وخطراً... وبالوقت نفسه هي أجملها وأدعاها إلى التعزية" . ولذلك فإن خدمته هذه تتطلب منه صفات أساسية:

أ‌- صفات إنسانية : كالفطنة و الرصانة و القدرة على التمييز، والحزم المُلطَّف بالعذوبة والطيبة. ونضيف عدم الحِشْرية الزائدة بالتوقّف على الأعمال المُذِلَّة...

ب‌- صفات علمية: لابد له من الإطلاع المتجدّد على مختلف العلوم اللاهوتية، وأن يكون ضليعاً في معرفة كلام الله معرفة حية، عميقة مستساغة للأسماع، ويجب أن ينهل من العلوم الإنسانية و منهجية الحوار بما فيه الكفاية.

ج‌- صفات روحية: ما يحتاج إليه الكاهن بالأَوْلى هو الحياة الروحية الناشطة الصادقة ... وأن يعطي بأفعاله البراهين عن خبرة حقيقية بالصلاة المُعاشة، وممارسة الفضائل الإنجيلية والطاعة لإرادة الله والمحبة للكنيسة والانقياد لسلطتها التعليمية، وهذه الصفات الروحية تقوده إلى أن يترك كل شيء، عندما يأتيه تائب ولا يتخلّف، عن إهمال أو لِحُججٍ أخرى، عن الموعد المضروب للمؤمنين في كرسي الاعتراف ... ويبذل المزيد من العناية لكي لا يذهب إلى هذه المهمة السِرّية بدون استعداد.

د‌- ميزة الكاهن الأساسية: الاعتراف الشخصي :

• حياة الكاهن الروحية .... تتعلق من حيث نوعيتها و حرارتها، بممارسة شخصية متواترة واعية لسر التوبة ... فإذا كان الكاهن لا يعترف أو يعترف اعترافا سيئاً فإنّ كيانه الكهنوتي وعمله يتأثران سلبياً من جراء ذلك ... ولا تلبث الجماعة التي يرعاها من أن تلاحظ هذا الأمر.

• خبرة الاعتراف الشخصي عند الأسقف والكاهن يجب أن تصبح حافزاً على مزاولة خدمة هذا السر المقدس، مزاولةً ناشطة مثمرة متأنية، حارة ... تجعلهما راعيين صالحين لإخوتهما ... فتنكسر شوكة الخطيئة ... ويبرز مكانها سلام وبر وفرح.

• موضوع الحوار داخل سر التوبة والمصالحة يتأثر بكل ما ذكرنا ... وهناك من الكهنة من يُغفِله بسبب قلة الوقت أحياناً ... أو عدم التهيئة لذلك أو الخوف من عدم الجدارة وفقدان المستوى الثقافي ... فالاستعداد الكافي ليس متوفراً عند جميع المُعرِّفين ... لكنه يبقى أنّ "الحلَّة" تُعوِّض عن نقص الحوار .... وتتجاوب معها قداسة الكاهن الشخصية فيشعر التائب بها و يتأثر بمفعولها المنسكب في قلبه تفهّماً وحناناً وتشفعاً وصلاة...

الخاتمة

- نعود إلى كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية لكي نوجز مفاعيل سر التوبة والمصالحة ونقول إنّ في هذا السر الكنسي تتم الأمور التالية:

- المصالحة مع الله التي بها يستعيد التائب النعمة الإلهية، والمصالحة مع الكنيسة، ومحو العقاب الأبدي والعقوبات الزمنية... والتنعّم بالسلام والطمأنينة وراحة الضمير، وتنامي القوى الروحية في سبيل الجهاد المسيحي الروحي

وإلى هذا نضيف: إن الصعوبات التي تقف أمام المؤمن لقبول سر التوبة، تَجدر مجابهتها بروح المحبة المسيحية، الذي يجب أن يتحلّى بها كل مسيحي وبخاصة الكهنة خَدَمة هذا السر المقدس... وأن يكون تعاون في الكنيسة بين ذوي الاختصاصات العلمية واللاّهوتية والمشهود لهم بعمق الحياة الروحية، لكي يُرجِعوا المؤمنين إلى ينابيع القداسة بكل تفانٍ واتضاع وطول باع ومثابرة...

ولأجل كل ما ذكرنا في سياق هذه الرسالة، من صعوبات أنطروبولوجية وايدولوجية ولاهوتية وغيرها، فإننا نقترح التركيز على ما هو معمول به في أوساطنا، ألا وهو الاستفادة من العيدين الكبيرين، عيديْ الميلاد والفصح، (ومن سائر الأعياد) والزمن الذي يسبقها لإحياء سر التوبة في حفلات جماعية ذات أجواء خاصة ضمن مجموعات راعوية أو منظمات مختلفة مما يضع المؤمنين في أجواء تأمل وتذوق لكلمة الله ومن ثم يسهل فحص الضمير ويميل بالتائب إلى الإقرار السري وطلب الغفران وتجديد رغبة العيش مع الله.

وفي النهاية نوجّه الدعوة إلى أبناء الكنيسة، كهنة وعلمانيين، إلى إعادة قراءة مضامين الحياة الشخصية تحت نظر الله والاعتراف به خالقاً ومخلِّصاً بالمسيح يسوع، وطلب مساعدة الروح القدس المعزّي لكيما يتأصّل الاعتراف بالخطايا بهذا الاعتراف بالله الثالوث و يتأصّل من ثم في حياة المؤمن ويكوّن فيها محطة أساسية في حياته الشخصية وانطلاقة وثّابة في مسيرته الإيمانية.

ولا يمكننا أن نختم هذه الرسالة من دون أن نوجّه المؤمنين إلى شخص العذراء مريم "أم الرحمة والرأفة" و"ملجأ الخطأة"... ففي كنف هذه الأم الحنون نستطيع أن نفهم شناعة الخطيئة وضرورة الإسراع إلى ملاقاة المسيح المُخلِّص ونيل غفرانه الطيب عن يد الكنيسة الأم والمعلمة.

ملحق

التعرف على الخطيئة أيضاً وأيضاً والعلامات التي تدل عليها

ما ذكرنا أعلاه عن معرفة الحالة الخاطئة ومن ثم عن التعرّف إلى الخطيئة يبدو غير كافٍ بالنسبة لعقلية مُتعلْمِِنة وبخاصة عند شباب اليوم. فيأتي السؤال كالآتي:

هناك أوضاع مُعقَّدة وحالات صعبة، ومُناخات متلبّدة لأعمال قد نقوم بها لا يمكن التمييز فيها بسهولة والتيقن أننا خَطِئنا أم لم نَخَطأ. فهل من علامات إضافية تدل بالتأكيد على ارتكاب الخطيئة أو عدم ارتكابها؟!

للإجابة على هذا السؤال، نستعين بآراء الأب كزافييه تيفينو Xavier Thévenot ونستنتج علامات خمس:

1: العلامة الأولى : المخالفة :

• المخالفة هي تعدٍ على وصية إلهية أو مانع أدبي أو شريعة اجتماعية .... و ليس من السهل تحديد العلاقة بين المخالفة و الخطيئة .... فيمكننا القول إنّ كل خطيئة هي مخالفة، لكن ليس كل مخالفة هي خطيئة. فأحياناً المخالفة ليست إرادية .... وأحياناً يجهل الشخص وجود مانع أدبي لعمل ما، أو أنه يعتقد أن مخالفة هذا المانع لا تؤثِّر في علاقته مع الله ....

• و يمكن أيضاً أن يكون المانع المفروض على عمل ما أو الدافع إليه يضرُّ بإنسانية الإنسان (مثلاً تلقي الأمر بقتل الأسير) ... كأنّ الإنسان وُجد من أجل الشريعة، لا الشريعة من أجل الإنسان.

• وقد يحصل أخيراً، أنّ مخالفة مانع ما يسمح بالمحافظة على مانع أهم، فنجد ذواتنا أمام ما يسمى عند اللاهوتيين" بتنازع القيم: "de valeurs conflit"

• ولكن الوصية الوضعية، الإلهية والكنيسة، تبقى المرجع الأساسي لتقييم المخالفة، تقييماً يجب أن يكون بمؤازرة الروح القدس في جو من الصلاة والتفكير السليم، والاهتمام بالحصول على رأي المراجع الكنسية. وإلاّ أصبحت "المخالفة" دليلاً على خطيئة قائمة.

2- العلامة الثانية : الانحراف و الأعمال المنحرفة :

الانحراف هو حالة شخصية أو ميل في الكيان الداخلي يجد الإنسان من خلاله أنه في وضع أدبي لا يتطابق مع قاعدة سارية في المجتمع الذي يعيش فيه.

أنواع الانحراف متعدّدة، فمنهم من عنده ميل إلى إشعال الحرائق، ومنهم إلى السرقة و منهم إلى تعذيب الذات و الآخرين، ومنهم من يهوون سكب الدم أو الانتحار، أو الإدمان...

وللميدان العاطفي انحرافاته أيضاً كالتوْق إلى التواصل الجنسي بطرق غير طبيعية والقبوع في حالات الشذوذ المتنوعة.

ففي شتى أنواع الانحراف، يجب الرجوع إلى الكنيسة، فهي أم و معلمة، ولا تَني عن متابعة التطورات الحضارية لعالم اليوم وتعقّداتها ، وبصفتها "خبيرة في الإنسانية" فإنها تغرف من كنوزها "جدداً وقدماء" وترمق أولادها والعالم بنظرة حب وحنان.

والحال أن الكنيسة تقول: إنّ الانحراف لا يكون خطيئة بحد ذاته في كثير من الأحوال بل ميل فاسد جامح يصعب فيه تقدير المسؤولية الشخصية.... فالخطيئة هي في اقتراف الأعمال المنحرفة ... وإنّ الإنسان المنحرف يبقى شخصاً محبوباً من الله عليه أن يعمل ما بوسعه بمؤازرة النعمة ومساعدة الآخرين على التخلص من انحرافه، وإذا لم يُفلِح في ذلك فَلَه أن يتعامل مع حالته الخاصة من دون أن يُفعِّلها بأعمال منحرفة . أعمال كهذه إذا ما حصلت فإنها تعود إلى الخطيئة و تكون علامة لها ...

3-العلامة الثالثة : الألم و التألم :

* من الناس، من يعتبر أن هنالك معادلة بين الألم والخطيئة.... فإذا ما تألم أحد فلابد أن يكون قد أخطأ هو أو غيره... هذا الاعتبار رفضه يسوع في قصة الأعمى منذ مولده. فعندما سأله تلاميذه "من أخطأ هو أمْ أبواه حتى وُلِد أعمى "أجابهم" لا هو أخطأ ولا أبواه" (يوحنا 9/1-3).

* لكنه في الوقت نفسه نرى مقاطع كتابية تعد بالفرح والسلام والسعادة لمن يعيش حسب الفرائض الإنجيلية في اتّباعهم للمسيح ... وتَعِِد على عكس ذلك بالويلات لمن يستغلّ الآخرين، أويغتني بطريقة غير مشروعة أو يقيّم نفسه كنبي كاذب. ( لوقا 6/24) ...

* وفي غير موضع من الكتاب المقدس تظهر صلة بين الخطيئة وقوى الشر من ناحية، وبين حالات المرض والتعاسة والضياع من ناحية أخرى فكيف نوفّق بين هذه المعطيات الكتابية؟

* يوجد تمييز عند اللاهوتيين ما بين الآلام الطبيعية أو المفروضة علينا من قِبل الطبيعة، وبين الألم الأدبي الناتج عن الخطيئة . فإنه لفي طبيعة الإنسان أن يعاني من الفشل والأوجاع الجسدية والتمزقات الناجمة عن تعثُّر مشاريعه، وصولاً إلى الخوف المستمر من مجابهة الموت المحتّم ... آلامٌ كهذه لا يمكن أن تُعتبر كعواقب لخطايا شخصية، لأنها ناتجة عن طبيعة الإنسان المحدودة.

* بينما تنكشف لنا في المقابل مغبّة الخطيئة المؤلمة عند تعاملنا السلبي مع الآفات الطبيعية التي نعاني منها وتقودنا إلى التمرد والعصيان أو إلى الكفر والإلحاد ... أو تظهر هذه المغبة من خلال شرور إضافية ناتجة مثلاً عن استغلال الإنسان للإنسان سواء أكان هذا الاستغلال صادراً عن شخصنا بالذات، أو كنا نحن ضحيته. وحدها هذه المغبّات الأخيرة المؤلمة تشير إلى ضميرنا أننا في حالة الخطيئة .

4-العلامة الرابعة : مادة العمل أو محتواه

(راجع ما قلنا ه في القسم الأول من هذا الموضوع عن أنواع الخطيئة، وعن الخطيئة المميتة، والخطيئة العرضية)

5- العلامة الخامسة : وجود الندم و الشعور بالذنب:

- بعض المسيحيين يقولون : أنا لا أشعر بالندم، "إذاً أنا لم أفعل شراً" والبعض الآخر : أنا أشعر بندم كبير "فخطيئتي إذاً عظيمة"

- لكنه ما يحصل غالباً هو أن قلة الشعور بالذنب أو تزايدها لا يتوافقان تماماً مع جسامة الخطيئة المرتكبة فإذا كان لابد للخاطئ أن يشعر بالندم ، فإنه لا يمكن أن يقيّم حالته الخاطئة ارتكازاً على هذا الشعور وحده ورغم ذلك يبقى الندم (ومن ثم الشعور بالذنب) منبهاً مهماً إلى وجود الخطيئة .


 
المطران يوسف أنيس أبي عاد

المقدمة

  • سر التوبة يمر بأزمة لا تخفى على أحد، فكثير من المؤمنين قد نسيه أو تناساه اليوم. بعضهم من لم يعترف منذ المناولة الأولى (أو الاحتفالية)، والبعض الآخر يغيب عنه مفهوم هذا السر أو يُشكِّك في مفاعيله ونعمه.

  • لسر التوبة والمصالحة أسماء أخرى تستعمل هنا وهناك، فهو يُسمّى تارة سر الهداية وتارة سر الاعتراف وأيضاً سر الغفران . أما نحن فقد اخترنا الاسم المتداول اليوم ألا وهو سر التوبة والمصالحة.

ففي رسالتنا هذه لسنا نتطرق إلى سر التوبة والمصالحة بكل أبعاده، بل نكتفي ببعض المفاهيم المهمة، مُسلِّطين الأضواء على أسباب "الابتعاد عن هذا السر وكيفية التقريب إليه"، معتمدين منهجية السؤال والجواب على مسائل عديدة تعترض اليوم الإقبال عليه، وذلك تماثلاً بما يقوله قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن أن هذه العراقيل يجب مواجهتها بوسيلتين اثنتين: تقديم تعليم الكنيسة إلى المؤمنين، وإقامة الحوار معهم.

ونقسم رسالتنا إلى قسمين: الأول يتناول مفهوم الخطيئة والمسائل المطروحة حوله، والثاني معنى سر التوبة والمصالحة والمسائل المتعلقة به.

أولاً - مفهوم الخطيئة والمسائل المطروحة حوله

1- الخطيئة ما هي: نظرة لاهوتية-كتابية

2- الصعوبات التي تعترض مفهوم الخطيئة وبواعثها والجواب عليها

  • الباعث الأول: تضاؤل معنى الخطيئة

  • الباعث الثاني: ظلام الضمير الأدبي الديني

  • الباعث الثالث: المزج بين الشعور بالذنب والخطيئة

  • الباعث الرابع: صعوبة التيقّن من حالة البرارة وحالة الخطيئة

1- التعرف إلى حالة البرارة

2- التعرف إلى حالة الخطيئة

أ: أنواع الخطيئة

ب: فداحتها

  • الباعث الخامس: الخطيئة المميتة والخطيئة العرضية

  • الباعث السادس: الخطيئة الاجتماعية والخطيئة الشخصية

    1- الخطيئة ما هي؟ نظرة لاهوتية - كتابية

  1. الخطيئة والوحي الإلهي

  • الخطيئة حقيقة داخلة في علاقتنا مع الله.

  • لو لم يكن الله موجوداً لما كانت الخطيئة. فالخطيئة بالمفهوم الإنساني المحض، وخارجاً عن أضواء الإيمان بالله، تُعتبر خطأً، أو جريمة، أو مخالفة، أو انحرافاً وليس إلا...

  • لا يمكن للإنسان أن يسبر مفهوم الخطيئة إلا بالرجوع إلى شخص المسيح يسوع فإنّ فَهْمَ خطورة الخطيئة وفَهْمَ حقيقة يسوع بالذات يتلاقيان في حركة واحدة فالإنجيل يقول إن المسيح بذل ذاته من أجلنا وأعطى دمه لمغفرة الخطايا (متى 26/28).

  1. الخطيئة بحد ذاتها :

  • إنها إهانة تطال الله مباشرة – هي طعن لعمل الخلق والفداء ولتحقيق الذات وللعلاقة مع الآخرين والعالم.

  • ليست الخطيئه شعوراً داخلياً محضاً أو حالة نفسية ... إنها فعل إهانة لله وكسر العهد معه، هذا العهد المُبرَم بدم المسيح.

  • وللخطيئة تشابيه كثيرة في الكتاب المقدس: هي المعصية (تكوين 3)، هي أشبه بِعُقوقية الولد تجاه الوالد المحب (أشعيا 64/1-8)، نكران الأمانة (هوشع الفصل 2)، هي تفضيل الظلمة على النور (روما 1/21000، هي تنكُّر للإيمان (روما 3/21) وتنكُّر للمحبة (1يوحنا الفصل 3).

  • لكن الخطيئة على شناعتها و فظاعتها تُظهر بالوقت نفسه قدرة الإنسان العظيمة المعطاة له من الله، والتي بها يستطيع أن يقف أمامه تعالى ويرفض حبه ويتخطى وصاياه ويقول له" كلا، لا أريد".

    2- الصعوبات التي تعترض مفهوم الخطيئة

1 - صعوبات مختلفة

"في الواقع يقول قداسة البابا إنّ سر الاعتراف يواجه صعوبات كثيرة: من جهة ظلام الضمير الأدبي والديني، تضاؤل معنى الخطيئة، تشويه مفهوم الندامة، قُعود الهمة فيما يخص الحياة المسيحية الصحيحة؛ ومن جهة ثانية: العقلية السائدة هنا وهناك التي تقول باستطاعة الحصول على المغفرة من الله رأساً، وحتى بطريقة عادية، بدون الاقتراب من سر المصالحة، وأيضاًَ عادة ممارسة الأسرار بطريقة تفتقر أحياناً إلى الحرارة والعفوية الروحية".

فقبل الولوج في عرض كل من هذه الأسباب وغيرها مما سنفصله لاحقاً، نود أن نتوقف قليلاً على "قعود الهِمّة في الحياة المسيحية"، وعلى "افتقار ممارسة الأسرار إلى الحرارة والعفوية الروحية".

هذه الدوافع الأخيرة لا يُسأل التائب وحده عنها، بل والجماعة الكنسية برُمّتها. فإذا كان هناك "قعود الهمّة في الحياة المسيحية" فغالباٍ ما تكون أسبابه في تضاؤل الإيمان، أو في الكسل، أو في الانصياع لروح العصر والعالم، عند الرعاة والمؤمنين على السواء، وهذا كله يتداخل في أسباب الابتعاد التي سنفصّلها فيما بعد.

2 - تفصيل هذه الصعوبات

الباعث الأول: تضاؤل معنى الخطيئة

السؤال: كيف أفهم معنى الخطيئة سيما وأنا لا أشعر أني خاطىء؟..

الجواب: لعدم فهم معنى الخطيئة أسباب مختلفة بنظرنا، أهمها:

أ- تطور مفهوم الخطيئة ( نظرة أنطرويولوجية)

أمس كان مفهوم الخطيئة يتداخل في كل الحالات الإنسانية، اليوم أصبح المفهوم وكأنه غريب عن الإنسان المُتَعَلْمِن.

أمس، كان مفهوم الخطيئة "مُشيّئاً" نوعاً ما: الخطيئة هي اللطخة، أوالعيب، اليوم أصبح المفهوم علائقياً (الخطيئة هي كَسْرُ العلاقة مع الغير)

أمس كان مفهوماً فردياً، مركزاً على الأنا "أنا هو الخاطئ"، اليوم أصبح المفهوم جماعياً "الجماعة هي الخاطئة"

أمس كان المفهوم شرائعياً، الخطيئة هي عمل مخالف للشريعة، ووصاياها وموانعها، اليوم أصبح أكثر غموضاً وقد بدّلوا كلمة "الوصايا" بكلمة موانع والموانع تحبط عزيمة الإنسان و تكبِّله فيما هو بحاجة إلى تشجيع وإنعاش.

وقد عبّر الشباب عن ذلك في يافطة كتبوها لقداسة البابا عام 1986:، "لسنا نريد موانعَ، بل دوافع حياة (دوافع تحبّبنا بالحياة)"

أمس كان مفهوماً إيمانياً، متأتيّاً من الإيمان "بألوهية الله" وقداسته وبكلمتهُ واليوم أصبح مركّزاً على "إنسانية الإنسان" .... مفهوماً يتبدّل تبدّل ايدولوجيات الفرد و بيئته ومجتمعه والحضارة التي يعيش فيها والظروف المختلفة.

ب- دوافع هذا التطور :

1ً. تأثير الإيدولوجيات الماركسية و المادية :

* لا خطيئة إلاّ ما كان تعدّياً على المجتمع أو الجماعات البشرية.

- فكل خطيئة هي إجتماعية بمعنى أنّ مسؤوليتها لا تقع على الضمير الأدبي لشخص معين بقدر ما تقع في أغلب الأحيان على كيان مُبهم أو مجموعة لا إسم لها من مثل الحالة والنظام و المجتمع و البُنى و المؤسسة إلى ما سوى ذلك .

2ً. تأثير العلوم الإنسانية:

1- متطلّبات اللاوّعي الشخصي أو الجماعي هي التي تؤثر على تصرفات الإنسان وتفرض ذاتها على إرادته .... لا يمكن أن يناهض الإنسان متطلبات اللاّوعي وإلاّ وقع في الإحباط أو في الكبت ، ومن ثم في الحزن و الخوف و الاضطراب .

2- تخطي عقدة الذنب أو الشعور به، تكون بقبول الشخص لشخصيته كما هي، ودعوته إلى تفكيك عقده بنفسه أو عند محلل نفساني.

3- يجب القبول بالآخر كما هو ومحاولة تبرير أخطائه بضرورة تفهّم اضطراباته الداخلية ، و بالنظر إلى الحرمان الذي يشعر به و إلى قساوة المجتمع تجاهه، والأخذ بعين الاعتبار انعدام النضج الكافي لديه.

4- وفي الميدان العاطفي فإن تطور مفهوم العلاقة العاطفية و الجنسية أوجَدَ نزوعاً إلى استباحة سائر الأعمال في هذا المجال إلاّ ما ندر منها (كالاغتصاب والتعدّي على الأطفال) وذلك بُغية التخلص من الكبت وبلوغ الانشراح والاكتفاء الذاتي.

3ً. أسباب سوسيولوجية :

1- تنامي إدراك المُعضِلات على المستوى الكوني و التقليل من أهمية هذه المعضلات على مستوى الضمير الفردي.

2- تأثير و سائل الإعلام التي تخلق تعدّدية في الآراء، فيصير خلط في المراجع الأدبية و تذويب للمسؤولية الشخصية.

3- اعتبار الخطيئة خطأَ يمكن تجاوزه مع مرور الزمن وتبدُّل الظروف وخلق الأعذار والتمويه عن أهمية الأخطار اللاّحقة بالذات الشخصية أو بالآخر.

4- فقدان روح الجهد والتضحية.

4ً. أسباب فلسفية وايدولوجية وعَمَلانية

1- "العلمانية" وهي حركة فكرية مسلكية تفرض نظرية إنسانية تتجاهل الله كلياً وتحصرهما في العمل والإنتاج منجرفة في تيار الاستهلاك والملذات غير آبهة بخطر "هلاك النفس".

2- "النسبية المسماة بالتاريخية" وهي مسلكية تقول بأن القاعدة الأدبية هي نسبية فتنتفي عنها ما لها من قيمة مُطلقة، وتنفي بالتالي إمكانية وجود أفعال غير جائزة بحد ذاتها بمعزل عن الظروف التي يفعلها فيها من يفعلها.

3- العَمَلانية: تضاؤل مفهوم أُبوَّة الله يصدر عنه رفض كل علاقة بما يفوق الطبيعة البشرية، بحجة التوق إلى الاستقلال الشخصي-والانجراف وراء أمثلة مسلكية يفرضها التوافق والتصرف العام، ولو رذلها الضمير الشخصي، ونزعة إلى حصر الأخطاء والذنوب ضمن حدود المحيط الاجتماعي.

4- أجواء التراخي العام و فقدان روح الجهد والتضحية.

5. أسباب لاهوتية :

• في بعض الأوساط الكنسية غالباً ما يتكلمون عن الروح – روح الحرية، على حساب التكلم عن الآب الخالق – الضابط الكل و منظم الخليقة. مما يخلق ضياعاً في المرجعيات، والانزلاق نحو النسبية الأدبية.

• التخفيف من أهمية وجود الصليب الفاصل بين حياة وحياة في الإيمان المسيحي والتعتيم على سر الفداء والتغافل عن تصويب الحياة الزمنية نحو الحياة الأبدية التي دخلت إلى العالم بالمسيح يسوع و مازالت تتنامى فينا حتى بلوغ ملء الملكوت.

أمور كهذه من شأنها أن تُرجع الإنسان إلى بشريته المجردة وكأن العمل الخلاصي لم يتم أصلاً.
تطور مفهوم الخطيئة والأسباب التي ذكرنا، لا يمكن الجواب عليها بسهولة، فالنظرات الأنطروبولوجية الحديثة بما لها من أسباب ومفاعيل هي في تطور مستمر وتبدّل سريع وهي موضوع نقاش دائم وجدال بين الأخصائيين أنفسهم. ولكنها إن دلَّت على شيء فعلى فقدان الروح الإيمانية ونبذ المرجعية الإنجيلية وعلى التنكّر لتقليد الكنيسة وتعاليمها "فخطيئة هذا العصر هي فقدان معنى الخطيئة كما قال البابا بيوس الثاني عشر" عصرنا بحاجة إلى "بُشرى جديدة" كما يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، يكون بإمكان ناقليها أن يستوعبوا عقلية هذا العصر وعناصر تكوينها، ويُعلنوا البشرى الإنجيلية الأصيلة مُرفقة بشهادة إيمانية شخصية.


الباعث الثاني: ظلام الضمير الأدبي الديني

السؤال: "ضميري لا يؤنبني على كل شيء، فلماذا أُقْدم على سر التوبة والمصالحة؟"

توسع في السؤال في الواقع غالباً ما يحصل في فترات معينة ولدوافع مختلفة أن يُظلِم الضمير لدى الكثيرين، فيعيش الإنسان بخطر فقدان الضمير كلياً، أو في خطر إفساده أو تَخْديره!

فلماذا تكثّفت هذه الظاهرة في أيامنا؟ وما هي العناصر التي تشكِّل ثقافة عصرنا وقد تؤدّي إلى هُزال حس الخطيئة والابتعاد عن التوبة والمصالحة؟ من تلك العناصر:

أ- عقلية العصر الصناعي، وقد دخلت منذ القرن التاسع عشر وأعطت الإنسان شعوراً بأنه قادر على كل شيء (كأنه هو الله).

ب- الإلحاد العملي واللامبالاة: agnosticisme: حركة ثقافية لا تنكر وجود الله ولا تُقرّه في آن. وكأن صاحبها يقول: "إذا كان الله موجوداً فأنا لست معنياً بالأمر" أو "الله لا يقول شيئاً للبشرية أكثر مما نعرفه"!.

ج- المادية المُتَعَلْمِنَة: والتي تقول: "القيمة كلها نعطيها لهذا الدهر ولهذا العالم". والعالم الآخر ليس موجوداً، وإذا كان موجوداً فهذا لا يخصّنا".

د- العلمانية-الربوية: "الله موجود. لقد خَلَق العالم وخلقنا. لكنه تركنا وترك العالم يسير كل بمفرده."

هـ الاستهلاكية: فلسفة حياة تجعل الإنسان مُستعبَداً للأشياء. اعتبار الإنسان وتقديره لنفسه وللآخرين لا يقوم على "من هو هذا الإنسان"، بل على "ما عنده" وعلى "الكم الذي يُنتجه".

ز- التحررية الجنسية: حركة تتطلع إلى كل شيء بالإنسان من خلال الغريزة الجنسية... والحديث عن تداخل الحياة الجنسية في شتى أنواع الحياة روّجت له وسائل الإعلام والأفلام الإباحية والتساهل في تخطي المحرّمات كتشريع الطلاق والإجهاض ومنع الحمل والإدمان إلى ما هنالك...

و- التحررية المطلقة: التي تجعل الإنسان سائراً نحو إشباع رغباته الغرائزية وأهوائه المزاجية المتقلِّبة الميول والأطوار.

الجواب:

- أمام هذا الواقع المرير لكسوف الضمير الأدبي الديني هذا، لا يمكننا إلاّ أن نذكِّر بتعليم الكنيسة عبر العصور والأجيال، بأن الضمير هدية ثمينة يجب المحافظة عليها كالمحافظة على حَدَقة العين.

- الضمير هو المركز الأكثر عمقاً في داخل الإنسان، والهيكل الذي ينفرد فيه مع الله ويسمع صوته. إنه هذا النوع من الحس الأدبي الذي يُرشدنا إلى تمييز ما هو خير وما هو شر. هو كعين باطنية وأداة للنفس بصيرة.

ولأجل ذلك وُجب تثقيف الضمير تثقيفاً مسيحياً لكيلا يُصبح طاقة هدَّامة لإنسانية الإنسان الحقّة، ولكي يبقى المكان المقدس الذي يكشف الله من خلاله عن خيره الصحيح.

فمتى هَزُل الضمير، أَظلمَ حِسُّ الله، ومتى ضاع هذا المعلم الهام، فُقِد حِسُّ الخطيئة ومعناها ... فإذا ما أظلم الضمير أو تخدَّر يجب إعادة تنويره وإيقاظه من جديد لكي يستقيم. وهذا الضمير المستقيم يحدو بالتائب أن يقول بجرأة واتضاع أمام الله والكنيسة: "إني خطئت، أنا شخصياً، وأنا مسؤول عن أفعالي. "

الباعث الثالث: المزج بين الشعور بالذنب والخطيئة

السؤال: كيف نميز بين الشعور بالذنب والخطيئة ؟

الجواب:

• تحديد الشعور بالذنب

الشعور بالذنب هو حالة نفسية تعطي الإنسان انطباعاً بأنه يرزح تحت ثِقل كبير، وإحساساً بغصّة الندم وبأنه ماثل أمام محكمة داخلية مستعدة لإدانته وملاحقته في كل آن وهو أيضاً إحساس بالقلق تجاه عقاب مُحَتَّم وشعور بالخوف الناتج عن فقدان محبة الغير.

1. التمييز:

1. الشعور بالذنب هو بداية الشعور باقتراف الشر، والخطيئة هي هذا الشر بالذات أو هي المشاركة في عمل الشر.

2. الشعور بالذنب هو شعور بوصمة شخصية .... بالتدني و الذل ... الخطيئة هي تحقيق لهذا الشعور تحقيقاً يكون بالفعل أو بالقول أو بالفكر أو بالإهمال.

3. الشعور بالذنب يتداخل في الخطيئة لكنه ليس إلا من نتائجها ... فإذا ما زال هذا الشعور فالخطيئة لا تزول.

4. الشعور بالذنب يركز على علاقة " الأنا مع الأنا "أما الخطيئة فهي تشوه العلاقة مع الله و"الأنا" والآخرين.

5. الشعور بالذنب يتطلب المسامحة من الذات و من الآخرين لكي تخف وطأته أما الخطيئة فتتطلب المغفرة ... والمغفرة لا يمكن أن تمنح إلا من الله بالذات.

2. أهمية هذا التمييز

هو في أنه يُظهر الخطيئة كعمل ضد إرادة الله قبل كل شيء آخر مهما كانت أهمية هذا الشيء أو تأثيره على الحياة الشخصية أو الاجتماعية.

الباعث الرابع:صعوبة التيقّن من حالة البرارة وحالة الخطيئة

السؤال:

1- كيف أميز إذا ما كنت في حالة البرارة أو في حالة الخطيئة ؟

2- هل يمكن أن تكون معرفتنا لحالة البرارة الشخصية كاملة و أكيدة ؟

3- هل لحالتنا الخاطئة علامات تدل عليها ؟

1- التعرف إلى حالة البرارة :

يبدو أنه من الصعب جداً معرفة ما إذا كان قلبنا هو في حالة قبول كلي أو في حالة رفض جذري لملكوت الله ... لأنه يصعب علينا أن نميز بوضوح ما هو عائد في عمل الخطيئة إلى حريتنا الخاصة، وما يعود إلى الأوضاع الضاغطة .. فالقديس توما الأكويني يقول "لا أحد يستطيع أن يعرف الله بعلم أكيد إذا ما كان حاصلاً على حالة النعمة"(أو النعمة الحالية) .

معنى هذه المقولة يتلاقى مع تعليم المجمع التريدنتيني: "لا أحد يعرف بيقين إيماني، بعيداً عن كل خطأ أنه في حالة النعمة" وهذا ما يتوافق أيضاً مع الجواب الذي ورد على لسان القديسة جان دارك للمتهمين إياها بالتصلُّف: "تسألونني إذا ما كنت في حالة النعمة، فأجيبكم: إذا كنت حاصلة عليها فالرب يحفظني بها، وإن لم أكن حاصلة عليها، فأطلب إليه أن يضعني فيها" أمّا عن إمكانية وجود علامة تشير إلى حالة النعمة فالقديس توما يقول: "يمكن للإنسان أن يعتبر ذاته في حالة النعمة بقدر ما يجد سعادته في الله ..." وقبل أن نصل إلى مسألة التعرّف إلى الخطيئة لابد من التوقف على إنجيل الدينونة في متى ( 25/31-32)

نلاحظ أن الأخيار والأشرار هم أول من يتعجبون عندما يسمعون كلمة الابن الديان يقول لهم: "تعالوا إليّ يا مباركي أبي ... أو اذهبوا عني يا ملاعين ... لأني جعت فأطعمتموني أولم تطعموني ... فيجيبه هؤلاء مندهشين متى يارب رأيناك جائعاً فأطعمناك... أو لم نطعمك ...." حُكْم الإنسان على نفسه كثيراً ما يكون ناقصاً أو مغلوطاً .... وحده المسيح الديان يعرف أن يكشف له ما كان في قلبه، فالشعور بالبرارة أو عدمه كما والشعور بالخطيئة لا يدل حتماً "أن الإنسان حاصل على هذه أو تلك ... حسبنا في الحياة أن نتحلى بالتواضع ونبقى في حالة توبة مستمرة من خلال الاهتداء الحثيث إلى الله والرجوع الدائم إليه بمعونة النعمة المبررة ... وأننا نحصل على البرارة في كل حالة شك من خلال اللجوء إلى سر التوبة بالذات.

2- التعرف إلى الحالة الخاطئة

للتعرّف إلى الحالة الخاطئة، نتبع تعليم الكنيسة الذي يشدّد على أنواع متعدّدة للخطيئة، وإننا نختصر ردّنا على السؤال الثاني بالتمييز بين هذه الأنواع:

أ: أنواع الخطيئة

1- الخطايا ضد الفضائل الإلهية :

- الخطيئة ضد الإيمان : يمكن أن تُعتبر أساساً لسائر الخطايا ، لأنها فيما ترفض الإيمان بالله الخالق والمخلص، تقود إلى الصَنمية. والحال أن الكنيسة اعتبرت منذ نشأتها أن الخطيئة مهما كان نوعها هي شكل من أشكال الصنمية، وعبادة الذات والمخلوقات.

- الخطيئة ضد الرجاء: هي رفض الاعتقاد بأن للعالم وللآخرين ولي أنا شخصياً مستقبلاً في الله ... وهي رفض القبول بأن قدرة الله تعمل عملها في الوَهَن وتتغلب "على حكمة أبناء هذا الدهر" ...

- الخطيئة ضد المحبة: تكمن في الانكفاء على الذات بطريقة مُسرفة والانغلاق على الآخر وتناسيه واحتقاره وإلحاق الضرر به. وتشمل كلمة الآخر الله والقريب والعالم .... والخطيئة ضد المحبة هي دليل واضح أننا لم نعرف الله المحبة.

مادة هذه الخطيئة هي ثقيلة جداً ... إذ أن بمحبة الله والقريب ترتبط الشريعة كلها والأنبياء (متى 22/40)...

فمن كفر إذاً بهذه الفضائل الإلهية أو بإحداها، شعر بأنه يضع ذاته خارجاً عن حياة الله واعتراه الظلام والضلال والضياع ....

2- الخطايا الرئيسة الأخرى:

هي التي تتكلم عنها الوصايا العشر: وينّوه عنها يسوع في الإنجيل، وهي بالإضافة إلى وصيتيْ المحبة، "عدم السرقة والزنى وشهادة الزور والظلم ثم إكرام الوالدين". (مرقس 10/19) وهناك خطايا "تصرخ إلى السماء" مثل إهراق الدماء (تكوين 4/10)، وخطيئة السادوميين (تكوين 18/20)، وأنّات الشعب المظلوم (خروج 3/7-10)، وشكوى الغريب والأرملة واليتيم (خروج 22/20-22)، وظلم الأُجَراء (تثنية 24/14-15)...

3- الخطيئة ضد الروح القدس:

أو خطيئة التجديف على الروح القدس (متى 12/31)، وهي التعامي عن إيحاءات الروح الخاصة وتلك التي يستشفها المؤمن من الكتاب المقدس وحياة الكنيسة – إنها في النهاية رفض قطعي للإيمان.

4- الرذائل الرئيسة السبع:

تُدعى هذه الرذائل "رئيسة" لأنها تولِّد رذائل وخطايا أخرى. وهذه هي: الكبرياء (ومنهم من يعتبرها أساساً لكل خطيئة وتُسمى أيضاً بالمجد الباطل) ثم الحسد والغضب والبخل والشراهة والزنى و"الأَسيديا" (وتعني أصلاً: عدم تذوق الأمور الروحية، وقد درجت اليوم تسميتها بالكسل أو الركود).

ب: أنواع الخطايا وفداحتها

هذه الأنواع التي ذكرنا تدل على تشعبات الخطيئة التي تتضح فداحتها من خلال العنوان التالي:

الباعث الخامس: الخطيئة المميتة والخطيئة العرضية

السؤال: يُقال أنّ هناك خطايا مميتة وخطايا عرضية، فكيف نميز بينهما؟

الجواب:

• الخطيئة المميتة : عندما يكون قلب الإنسان ممتلكاً بقوة الخطيئة أو بتعبير آخر عندما يحيد خياره الجذري عمداً عن الله، فالتقليد المسيحي يتكلم عن الخطيئة المميتة وهذه الحالة وحدها تستحق أن تدعى خطيئة. وهي تستدعي حسب تعليم الكنيسة شروطاً ثلاثة:

- معرفة كاملة - قصد ثابت - ومادة ثقيلة

• الخطيئة العرضية : تُحدد الخطيئة العرضية عند أغلبية اللاهوتيين بأنها طاعة كاملة لإرادة الله أو أنها توقف في السير نحو الله الخالق و المخلص أكثر ممّا هي انفصال عنه. وغالباً ما يُقال أن الخطيئة تكون عرضية إذا نقص شرط أو شرطان من الشروط الثلاثة التي للخطيئة المميتة.

الباعث السادس: الخطيئة الاجتماعية والخطيئة الشخصية

السؤال: ما هي الخطيئة الاجتماعية وهل للفرد مسؤولية فيها؟

الجواب: هناك مستويات ومعانٍ مختلفة لما يسمى بالخطيئة الاجتماعية:

• التضامن في الخطيئة : يوجد تضامن بين الناس يتطور على الصعيد الديني في سر شركة القديسين " فكل نفس ترتفع ترفع العالم " وتقابل قاعدة الارتفاع هذه ، قاعدة الانحدار حتى يمكن التحدث عن " الشركة في الخطيئة " فإذا انحدرت نفس إلى الخطيئة تنحدر معها الكنيسة و نوعاً ما العالم كله "

• الإساءة المباشرة إلى القريب : هي اجتماعية كل خطيئة ضد القريب ... و إنها لخطيرة لأنها على الأخص تنافي الوصية الثانية الشبيهة بالأولى ( متى 22/39)

• الإساءة إلى العلاقة بين الأشخاص في المجتمع : هي اجتماعية كل خطيئة تُقترف ضد العدل في العلاقات القائمة بين الأشخاص، وبين الشخص والمجتمع ..... والتي تمس بحقوق الإنسان و بسلامته الجسدية وبحريته وبمبادئه وكرامته وشرفه، وكل خطيئة تُقترف بحق الخير العام و متطلباته في المجال الواسع.

• الإساءة إلى العلاقات القائمة بين مختلف الجماعات البشرية ... فإن صراع الطبقات كما وصراع الحضارات والديانات ، وكذلك الخصومات المتمادية بين الأمم و بين الفئات المتعددة في الأمة الواحدة هي شر اجتماعي ...

• و يأتي السؤال هنا هل بالإمكان إلقاء مسؤولية مثل هذه الشرور ، و بالتالي الخطيئة على أحد الناس؟

للجواب نقول: ينبغي الاعتراف بأن وقائع وأحوالاً تكون غالباً مجهولة الفاعل كما أن أسبابها معقدة ولا يمكن الاهتداء إليها. لكن الكنيسة تعرف وتعلن أن خطايا اجتماعية من هذا النوع هي نتيجة عدة خطايا شخصية متراكمة ومترابطة يقترفها من يتسبب بالظلم ويسانده ويستغله ومن كان بإمكانه أن يعمل على تحاشي بعض الأضرار الاجتماعية و إزالتها ، وتقاعس عن ذلك إهمالاً وخوفاً ومخالفةً وسكوتاً مُخزياً، وتواطُؤَّاً مقنعاً أو عن لامبالاة ومن يختبئ وراء الإدعاء باستحالة تغيير العالم... إن المسؤولية الحقيقية إذن غالباً ما تقع أيضاً على عاتق الأشخاص أنفسهم...

هذا هو باختصار مفهوم الخطيئة وبعض المسائل المطروحة حوله فإذا كانت هذه هي أهمية الخطيئة، فكم يكون أهم سر التوبة والمصالحة الذي يمحو الخطيئة من جذورها ويعيد إلينا نعمة البرارة والخلاص وتقوينا للتغلب على التجارب.

 
الأب سامي حلاق اليسوعي

الصوم هو إحدى السمات المشتركة للديانات التوحيديّة وغير التوحيديّة. وهو بالتعريف امتناع لفترة محدودة عن الطعام أو عن أيّ شيءٍ آخر كالجنس أو التبرّج أو الكلام ... وقد مارس الناس في الديانات الشرقيّة الصوم بطرائق مختلفة. فمنهم مَن كان يتناول وجبة واحدة يوميّاً في ساعة متأخّرة من النهار، ومنهم مَن يكتفي بتناول الخبز والماء...

صوم الديانات القديمة

كان الصوم في الديانات القديمة يرتبط دوماً بطقوس المُسارة Initiation، وهي الطقوس الّتي يتمّ فيها ضمّ شخصٍ إلى جماعة بعد إطلاعه على أسرارها. وارتبط الصوم أيضاً بالتجديد أو الحزن أو التطهير والتنقية. ففي الديانات الآسيويّة، يُمارَس الصوم لتفجير الطاقات الكامنه في الإنسان، الّتي يعيق الطعام نشاطها، ولتنقية الجسم من السموم الّتي تتراكم فيه من الطعام والهواء غير النقيّ. فقد استعمل الطبّ الصينيّ الصوم لعلاج كثيرٍ من الأمراض. وحتّى الآن، حين يصاب الصينيّ بالحمّى يصوم، فلا يتناول سوى الماء. وهي طريقة تختلف عن طريقتنا الّتي تعتمد على تغذية المريض بالفيتامينات لمساعدة جسمه على مقاومة المرض. كما يُمارَسُ للارتقاء الروحيّ. ففي سيرة سيذهارتا غوتاما (البوذا)، كان الصوم وسيلةً لبلوغه حالة الانطفاء (النيرفانا). "لن آكل شيئاً ولن أشرب ولن أتحرّك من هنا حتّى أبلغ مرامي". هذا ما قاله البوذا حين عزم على سبر غور حيواته السابقة.

ومارس الفراعنة الصوم، لأنّه في نظرهم أكثر الطرائق جدوى وبساطة لكبح البؤس والضعف والغضب. فبالصوم يمنع الصائم عن هذه الرذائل الطعام فيُضعفها، وينقّي المآت (أي القلب، أو الضمير، أو السلوك الأخلاقيّ) منها. وكان القدماء يرفقون الصوم عن الطعام بانقطاعاتٍ أخرى كالامتناع عن العمل وعن الكلام وعن الجنس وعن مختلف متع الحياة.

ومنذ قديم الزمان أيضاً، وفي جميع الأديان، كان الصوم يتمّ في جوٍّ من الحزن والألم. حين يصوم الإنسان يتألّم ويشعر بمأساة العجز، فينمو لديه شعور بالشفقة وحاجة إلى طلب النعمة وتسوّل الصفح والمغفرة. فيمكننا إذاً أن نقول إنّ صوم الديانات القديمة هو عمل تكفيريّ، وألمٌ ينـزله الإنسان بنفسه فينال منه التنقية، ويطرد عن نفسه – أو عن جسده – جميع أنواع الشرور.

صوم اليهود

كان اليهود يصومون لأسبابٍ متنوّعة. فمنهم مَن ينذر الصيام لينال نعمةً من السماء، ومنهم مَن يصوم ليشكر الله على نعمةٍ نالها منه، أو ليستغفره من أجل خطيئةٍ ارتكبها. ويسمّون الصوم "استئناس النفس". أمّا الصوم القانونيّ، أي الّذي تفرضه الشريعة على كلّ يهوديّ، فكان لمدّة يومٍ واحدٍ في السنة، وهو العاشر من شهر كيبور (تشرين الأوّل- أكتوبر) أثناء الاحتفال بعيد التكفير. فقد ورد في سفر الأحبار: "في اليوم العاشر من الشهر السابع، تذلّلون نفوسكم بالصوم ولا تعملون عملاً ... لأنّه في هذا اليوم يكفَّر عنكم لتطهيركم" (16/29-30). فصوم اليهود هو صوم تكفير وتطهير.

وأضاف اليهود بعد السبي ثلاثة أيّامٍ أخرى يصوم فيها الشعب كلّه.

اليوم الأوّل هو اليوم العاشر من الشهر العاشر، وهو بدء حصار البابليّين لأورشليم.

اليوم الثاني هو اليوم السابع من الشهر الخامس، وهو يوم خراب الهيكل في أورشليم على يد البابليّين.

اليوم الثالث هو اليوم الثالث من الشهر الرابع، وفيه قُتِلَ الملك جدليّا، آخر ملوك اليهوديّة. وبموته فقد اليهود الحكم نهائيّاً.

"وهذا ما قاله الربّ القدير: صوم الشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر سيكون لبيت يهوذا سروراً وفرحاً وأعياداً طيّبة، فأحبّوا الحقّ والسلام" (زكريا 8/19).

ومنعت الشريعة اليهوديّة الصوم يوم السبت، لأنّ الصوم في هذا اليوم يعني رفض العالم الّذي خلقه الله. واستثنت من هذا المنع يوم التكفير، إذ يجوز الصيام فيه حتّى وإن وقع يوم سبت. وسمحت الشريعة أيضاً بالصوم في السبت إذا رأى شخصٌ كابوساً في حلمه مساء الجمعة. فالاكتئاب الّذي ينتج عن هذا الكابوس يمنعه عن المشاركة في أفراح السبت. ويؤمن اليهود بأنّ الصوم في اليوم التالي للكابوس يلغي القدر المحتوم، ويمنع الحلم المزعج من الحدوث.

 ولكن، على الصائم أن يصوم ثانيةً أثناء الأسبوع تكفيراً عن خطيئة صيامه يوم السبت.

سمات الصوم اليهوديّ

يصطبغ الصوم اليهوديّ بصبغة الحزن، لأنّ المناسبات الّتي يصوم اليهوديّ فيها حزينة. وللصوم سمات عدّة:

إنّه وسيلة تكفير: ففي يوم التكفير، يتذكّر اليهوديّ أنّ الله أبرم عهداً مع شعبه، لكنّ هذا الشعب خان العهد بخطيئته. لذلك وجب عليه أن يتوب ويصوم. "إئتزروا بالمسوح واندبوا أيّها الكهنة. ولولوا يا خدّام المذبح. ادخلوا الهيكل وبيتوا بالمسوح يا خدّام إلهي ... تقدّسوا للصوم ونادوا على الصلاة" (يوئيل 1/13-14).

وهو أيضاً وسيلة تضرّع: فالصلاة لا تكون حارّة إلاّ إذا رافقها صوم. وغاية التضرّع هي أن يمنع الله مصيبة توشك أن تحلّ بإنسان. فحين جاء بنو موآب وبنو عمّون لمقاتلة يوشافاط، "خاف يوشافاط واستنجد بالربّ وأعلن الصوم في جميع يهوذا" (2أخبار 20/3). وحين هجم أليفانا قائد جيش نبوخذنصّر على اليهوديّة، "صرخ كلّ شعب إسرائيل إلى الله وصاموا، وانسحقوا أمامه، ولبسوا المسوح هم ونساؤهم وأولادهم" (يهوديت 4/9-10).

والصوم أيضاً وسيلة تواضع، به يذلّل الإنسان نفسه ليعبّر عن خضوعه واستسلامه الكامل لله. "أذللتُ بالصوم نفسي، فصار ذلك عاراً عليَّ" (مزمور 69/11). فبوساطة الصوم، يقول الصائم لله: لاحول لي ولا قوّة إلاّ بكَ.

والصوم أيضاً وسيلة للقاء الرب. فقد صام موسى أربعين يوماً وأربعين ليلةً ليتلقّى الوصايا من الله ثانيةً بعد أن حطّم اللوحين الأوّلين بسبب عبادة الشعب للعجل الذهبيّ. "ولمّا نزل موسى من جبل سيناء ... كان لا يعرف أنّ وجهه صار مشعّاً من مخاطبة الربّ له" (خروج 34/29). وكذلك استعدّ إيليّا بالصوم للقاء الربّ على جبل الله حوريب (1ملوك 19/8). ولماذا يجب الصيام قبل لقاء الله؟ يقول التلمود، وهو كتاب شرح التعاليم اليهوديّة، إنّ الإنسان يقبل تلقائيّاً أن يحرم نفسه بعض المتع احتراماً لوجود الآخر. فيلغي مثلاً احتفالاً إذا مات جاره، أو يبقى مع ضيفه حتّى وإن كان تعباً. ألا يتوجّب عليه أن يزعج نفسه بالصوم حين يدنو من خالقه؟ فالصوم، بهذا المفهوم، يندرج مع خلع النعلين وتغطية الوجه والتعفّف والامتناع عن لم أو الاقتراب ممّا هو مقدّس. إنّه سلوك تلقائيّ لإنسان يدرك وحدة جسده ونفسه، فلا تستطيع النفس التسامي نحو الله طالما الجسد منغمس بالملذّات والشؤون الأرضيّة. فبالصوم، تتحرّر النفس من معوقاتها الأرضيّة، وتصبح حرّةً طيّعة بين يديّ خالقها.

وعلى الرغم من جميع هذه المفاهيم الروحيّة السامية للصوم اليهوديّ، عاش اليهود صيامهم بطريقةٍ حرفيّة شرعويّة خالية من الروح. فثار الأنبياء على الصوم لكنّهم لم يلغوه، وأشاروا إلى ضرورة ممارسته بموقفٍ قلبيّ، وبإتمام لشرائع محبّة القريب والعدالة الاجتماعيّة. "فالصوم الّذي أريده أن تُحَلَّ قيود الظلم، وتُفكَّ مرابط النير، ويُطلَقُ المنسحقون أحراراً، ويُنـزَع كلّ نيرٍ عنهم. أن تفرش للجائع خبزك، وتدخل المسكين الطريد بيتك. أن ترى العريان فتكسوه، ولا تتهرّب من مساعدة قريبكَ" (أشعيا 58/6-7).

 

مقدّمة

لا يمكننا الفصل أبداً بين إنسانية يسوع وألوهيته، كأن نقول: هنا، في هذا الموقف أو ذاك التصرف، كان يسوع  إنساناً؛ وهناك، في موقف أو تصرف آخر، كان إلهاً.. هذا قولٌ إنساني، وذاك إلهي. لا شك أننا نستطيع أن نشاهد مجد الألوهية في التجلي؛ ونلحظ الإنسانية في الجوع والعطش والتعب والفرح والتأثر.. ولكننا حين ننظر إلى يسوع كشخص، هو دائماً واحدٌ لا يتجزّأ.
      هذا المقاليُعرّف عن إنسانيّة يسوع.يتبعهمقالآخر يكشف ألوهية السيد المسيح. نحاول فيهما الدخول في سرّ هذا الشخص، في فهم إنسانيته وألوهيته من جهة، والارتباط الوثيق بينهما من جهة أخرى. لا شكّ أن تطارح التساؤلات في هذا الموضوع هو من العمق بمكان أكثر من تسلسل وتحديد الأفكار. ببساطة: مَنْ يكون يسوع المسيح؟ ما دوره في التاريخ؟ هل هو إنسان ككل البشر؟ يُقال لي: "نعم"، ولكن بدون خطيئة!.. كيف؟.. وأنا، ككل إنسان، حين أعيش واقع الخطيئة أشعر أنها ما يميّزني.. فكيف يكون "مِثْلي" من دونها؟
.. هل إنسانية يسوع هي إنسانيةٌ من نوع آخر تميّز بها عن سائر البشر لكونه إلهاً، وكأن الألوهيّة ابتلعت الإنسانية؟.. ما هي إنسانية يسوع، وما علاقتها بألوهيته؟... سوف نحاول أولاً التفكير بهذه التساؤلات على ضوء ما كشفه لنا الكتاب المقدس، ثم نستعرض ما تقدمه لنا الكنيسة من عقيدة إيمان حول هذا الموضوع.


1- يسوع في الكتاب المقدس

المبدأ والأساس في التعرف على شخص يسوع: قيامته!..


كانت البشارة بالمسيح، قبل أن يدوَّن الإنجيل، تعلن بطريقة "الخطف خلفاً" الـ Flash Bac، أيالإعلان أن يسوع حيٌّ بعد موته هو منطلق التبشير به والتعرف الحق على شخصه. لنبدأ من هنا.
يقول كتاب أعمال الرسل، الذي كتبه لوقا كاتب الإنجيل الثالث، في ذلك: "إن يسوع الناصري، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما أنتم تعلمون، ذاك الرجل الذي أُسلم بقضاء الله وعلمه السابق فقتلتموه إذ علقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت... ونحن بأجمعنا شهود على ذلك.. فلما سمعوا ذلك الكلام، تفطَّرت قلوبهم، فقالوا لبطرس ولسائر الرسل: "ماذا علينا أن نفعل، أيها الأخوة". فقال لهم بطرس: "توبوا، وليعتمد كلٌّ منكم باسم يسوع المسيح، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطية الروح القدس" (أنظر وقارن: رسل2/22-38،  وأيضاً 3/13-20، 4/10-00، 10/39-43، 13/27-00).. نستنتج من النص السابق والنصوص الأخرى ما يلي:

1
- إن صفة "ناصري" هي دلالة على تاريخية يسوع، أي أنه إنسان ما، وُجد في زمان ومكان معينين. لقد عُرف يسوع بهذا اللقب، فورد 11 مرّة في الأناجيل، و7 مرات في أعمال الرسل. حيث ترتبط هذه الصفة عموماً، وهي تعريفٌ عن إنسانية يسوع كما ذكرنا، بشخصيته المميّزة، فرواية القيامة في الأناجيل تؤكد أن الذي قام هو هذا "الناصري" (أنظر: مر16/6، لو24/19). وبالمقابل الذي أُسلم وتألم ومات هو "الناصري" (أُنظر: مت26/71، 14/67، يو18/5-7، 19/19). كما تُطلق هذه الصفة على يسوع في عزمه على تقويض وتبديد قوة الشر (أُنظر: مر1/24، 10/47، لو4/34، 18/37).
2- البشارة
الأولى (أي الإنجيل باللغة اليونانيّة: Evanggulion ) هي إعلان قيامة يسوع،
3- إنها بذات الوقت "شهادة" رسله،
4- وهي أيضاً منح الروح القدس، روح البنوّة لمن يؤمن به، ويتوب ويعتمد.
5- وهي "إعادة قراءة" وفهم لشخصية يسوع "الناصري"، وما تضمنته من أحداث وتعاليم ومواقف، في حضور حي له. قام بإعادة القراءة هذه الرسل أنفسهم
، وقد تعمَّدوا بنور الروح القدس عطية القيامة، الذي تقبلوه يوم العنصرة، حيث الصلاة، ومشاركة الجماعة، والافخارستيا "كسر الخبز"، والمواظبة على تلقي الكلمة المحيية، والخدمة، وصنع الأعاجيب (رسل2/42-47).
6- وأعاد الرسل أيضاً، على ضوء القيامة، فهم "الكتب المقدَّسة" بأسرها، أي العهد القديم، وقد كان آنذاك وحده الكتاب المقدَّس. والرب شخصياً يفسر ويدعو إلى الفهم والانسلاخ عن "غلاظة القلب" (لو 24/ 25، رسل2/42-47). ولقد قامت الجماعة الرسوليّة الأولى فيما بعد بتدوين هذه البشارة في أسفار العهد الجديد
.


نستنتج من خلال قراءتنا العهد الجديد ككل ما يلي:


أ- إن الإنسان يسوع "الناصري" هو ابن الله، في كلٍ من كتاب أعمال الرسل، و الأناجيل الإزائية (متى، مرقس، ولوقا)، وهذا ما يسمى اللاهوت التصاعدي. أي أن هناك "إعلانُ تدريجي" لشخص يسوع ينطلق من إنسانيته للوصول إلى ملء سرّه في البنوة الإلهية.
ب- وبالمقابل هناك "لاهوت تنازلي" يتمحور حول مفهوم "التجسّد": "الكلمة صار بشراً"، يقدّمه كلاً من يوحنا وبولس. أي أن ابن الله يصير إنساناً، هو يسوع الناصري (أنظر: مقدمة الإنجيل الرابع: يو1/1-00، وأيضاً غلا4/4
ج- إن الهدف في كلا اللاهوتََين، هو تقديم رؤية جديدة للإنسان ولعلاقته الخاصة بالله، أي الخلاص. كما يقول الآباء: "صار ابن الله إنساناً لكي يصير الإنسان ابناً لله". ويقول إيرناوس (أسقف ليون - القرن الثاني): "مجد الله هو الإنسان الحي".


ألقاب يسوع تعرّف عنه


لقد اعتاد اللاهوتيون في دراستهم شخصية يسوع المسيح فيما يُسمّى "علم المسيح" الخريستولوجيا (Christologie)، التعريف عنه خصوصاً من خلال "الألقاب" التي أُطلقت عليه أو أطلقها هو نفسه على نفسه، كـ "المسيح"، "ابن البشر"، "المعلم"، "الكلمة"، "الابن"، "ابن الله"، "النور"، "والطريق الحق والحياة".. (الخ). إن هذه الألقاب، تدلّ في آنٍ على إنسانية يسوع وألوهيته، ولكننا نستطيع أن نرى في بعضها دلالات أقوى على إنسانيته، وفي الأخرى على ألوهيته. ولننتبه إلى تغيير المعنى بشكل جذري، في بعضها على الأقل، بحسب مفهوم يسوع.

1
- يسوع هو "المسيح" المنتَظر:


يسأل يسوع تلاميذه: "من أكون في نظركم " فيجيب بطرس: "أنت المسيح" (مر8/27-30). إن لفظة "المسيح" (مَشيح) العبرية  تعني "الذي مسحه الله" ، هي من أهم الألقاب التي أُطلقت على يسوع. فقد استعملت في كتب العهد الجديد حوالي الـ470 مرة تقريباً. ويُطلق هذا اللقب عادةً على النبي والكاهن والملك، لأنهم كانوا يمسحون بالزيت دلالة تكريسهم لخدمة الله. والمسحة بالزيت هي رمز منح الروح القدس.  فموسى مسح هارون وبنيه ليكونوا كهنة الله (خروج 30/30)، وصموئيل مسح داود ليكون ملكاً (1صموئيل16/1-13، 2صموئيل12/7). وأشعيا مسحه الروح القدس ليعلن اقتراب الملكوت (أشعيا 61/1-2). ولقد وعد الله داود على لسان ناتان النبي أنه سيُقيم من نسله ملكاً "وسيقرُّ عرش ملكه إلى الأبد" (2صموئيل7/13). عاش شعب العهد القديم على مدى أجيال، وهو ينتظر تحقيق تلك النبوءة، بمجيء ملك من نسل داود؛ "يُمسَح" ولا يكون لملكه انقضاء. وازداد رجاؤه إلحاحاً بعد تدمير مملكته وسبيه إلى بابل. وراح الأنبياء يصفون ملامح هذا المسيح. واشتد الانتظار فيما يسمى "الأزمنة المسيحانية"، خصوصاً في ظل الحكم الروماني قبيل الميلاد. ولقد قامت حركات مسيحانية  تُأجج روح الانتظار عند الشعب. وجاء يسوع أخيراً، وهو المسيح المُنتَظَر، ولكن بخلاف التوقعات، لأنَّ مملكته ليست من هذا العالم (يو18/36). وكانت الصدمة الكبرى في أن هذا المُنتَظَر يبشِّر بملكوت يناقض التوقعات. ويفسِّرُ اللاهوتيون أن تجارب يسوع، التي اختبرها ربما طيلة حياته حتى بلوغه الصليب، هي صراع الاختيار بين الملكوت المُنتَظَر عند معاصريه وطيلة أزمنة الترقب، المبني على القوة والخوارق والسلطة والمجد الأرضي؛ وبين ملكوت الله القائم في تتميم مشيئة الآب، في الحق والبرارة والمحبة والعدل. ربما نستطيع الآن فهم التناقض في طلب صلب يسوع  بعد المناداة به ملكاً.2- يسوع هو "ابن البشر":

إنَّ لقب "ابن البشر" (بَرناشا) الذي استعمله يسوع للدلالة على نفسه هو من أقدم الألقاب المطلقة عليه في العهد الجديد (حوالي الـ85 مرة)، كما يقول مفسرو الكتاب المقدَّس. ويرجع هذا اللقب إلى نبوءة دانيال التي تقول: "ورأيت في رؤى الليل فإذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيام وقُرِّب أمامه، وأُوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الأُمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبديّ لا يزول، وملكه لا ينقرض" (7/13-14).

تشير هذه النبوءة إلى مجيء إنسان ملكي وسماوي يظهر في آخر الأزمنة، فيزيل سلطان سائر الملوك، ويملك إلى الأبد. ورغم أن هذا اللقب يشير إلى آخر الأزمنة ( أُنظر لو شئت: لو12/8-9 ومت16/28 ومت24/30 ومت25/31-33 ومت13/40-43 ومر14/61-62 )، إلاّ أنه يدلُّ أيضاً، بحسب مفهوم يسوع، إلى تحقيق الملكوت منذ الآن، والعلامة في ذلك: مغفرة الخطايا، وشفاء المرضى، والسيادة على الشريعة (أُنظر: مر2/10، لو19/10، مر2/28). وسلطة ابن البشر ليست سلطة سيادة بل خدمة (مت8/20، 20/28). وكان يسوع كلّ مرة يتحدَّث عن آلامه يدعو نفسه بهذا اللقب (مر8/31 و9/31 و10/33 ومر14/21و41 ويو3/14 و13/31 ). وهنا كانت تكمن الدهشة عند معاصريه، حيث أن انتظارهم لابن البشر هو مختلف عمَّا حققه يسوع، تماماً كما حدث لهم في انتظارهم للـ"مسيح" (يو12/31-36).

انتظار الأُمم .. عهدٌ قديم للأمم

إن الانتظار لا يقتصر فقط على شعب العهد القديم بل يشمل كلَّ الأمم والشعوب. يقول جون هُوْ: "ما من بلدٍ في العالم أجمع  إلاّ أقام الله له فيه منادين يبشرون مواطنيه بقدومه. لم يتلقوا وحياً خاصاً لهذا الغرض، غير أنهم كانوا ممتلئين حكمة خاصة وجرأة غريبة تجعلانهم يهيئون العقول عفواً لقبول الكلمة الإلهي الأزلي المزمع أن يتجسَّد ليهدي العالم إلى الخلاص". ويقول باسكال: "كم يسرنا أن نعاين بعين الإيمان أن داريوس وكسرى والاسكندر وقيصر.. كانوا يعملون عن غير علم منهم لمجد الإنجيل"

حتى الفلاسفة أدركوا حقيقة الانتظار هذه ولو بشكلٍ ظليّ، يقول أفلاطون: "يجب أن ننتظر شخصاً يعلمنا كيف ينبغي أن نتصرَّف مع الله ومع البشر".

كذلك الشعراء اختبروا الانتظار، يقول فيرجيلوس الروماني: "لقد حانت الأيام الموعودة، ونظام الكون اللامحدود ها هو ذا قيد التجدد، طفل صغير مرسل من السماء إلينا. وعلى عهده ستُمحى آثار جريمتنا. والأرض لن تعرف الخوف فيما بعد، ولسوف يتخذ له مقراً مع الآلهة ويحكم العالم الهادئ بقوَّة فضائل أبيه. فهلمَّ أيها الابن العزيز، يا ابن جوبيتر انظر إلى المسكونة فهي خاشعة باحترام أمامك، تسلِّم عليك. وانظر فكل إنسان قد سُرَّ وابتهج بقدوم هذا العهد الجديد".

3- يسوع هو "المعلم":


لقد أُطلق على يسوع أيضاً لقب أو صفة  "المعلم" (40 مرة  تقريباً. أنظر: مر10/17، 14/14، لو8/49،17/13، يو11/38). ويبدو أن تلاميذه وعموم الناس قد اعتادوا مناداته بهذا اللقب حتى أن الإنجيل قد حفظه بلغته الأصلية: "رابي" (13 مرة، أنظر: مر9/5، 11/21، يو1/38،49، 3/2، 9/2، 11/8،..)، و"رابوني" (مر10/51، يو20/16).

لقد كان يسوع يعلم في الهيكل وفي المجامع وفي البيوت وفي كل مكان. وغالباً ما يُظهره الإنجيل أنه المعلم المتجوّل (أنظر: مت9/35، 15/32، مر1/21-22، 6/2، 4/1-2، 4/33-34، لو5/1-3، 10/25، يو7/14-17). ولقد تنوّعت شرائح مستمعيه التي يمكننا أن نصنفها بعدة مجموعات: الجموع، وهم البسطاء والصيادون والضعفاء وعامة الشعب، علماء الدين كالكتبة والفريسيين وعلماء الشريعة والصدوقيين، وأتباعه وهم التلاميذ والرسل وبعض النساء. ولقد كانت طريقة تعليمه جذابة، بشكلٍ أن الإنجيل غالباً ما يظهر كثرة الجموع التي كانت تتبعه لسماع كلمة الله منه، وكانت تندهش من عذوبة كلامه. كما كان يُنتقد أحياناً ممن يشعروا أن هذه التعاليم تهدّد راحتهم. أو لأنه يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين، وهذا ما يبرز صفة إنسانية عميقة فيه وهي الشجاعة. وكان يقدّم تعاليمه عموماً بأسلوبين: العظات، وأشهرها العظة على الجبل (أنظر: مت5-7)، والأمثال وأشهرها التي تعرّف عن أبوّة الله (أنظر خصوصاً: لو 15/11-32). ويفسر لتلاميذه كلّ ما غامضاً وعميقاً ليهيئهم لرسالة الملكوت.

المعلم الحق هو من يعيش ما يُعلّمه، وهكذا كان يسوع. علّم الصلاة (مت6/22، لو22/40)، وكان يصلي (مر1/35، لو116/12،/1،22/41). دعا إلى المحبة (مت5/44)، وأحب أقصى حدود المحبة (يو15/13). نادى بالمغفرة (مت18/21-22)، وغفر لصاليبه (لو23/34). تحدّث عن أولية الخدمة، وأن المعلم يجب أن يكون قدوة فيها (مت20/26)، وغسل أرجل تلاميذه (يو13/1-16). لذلك قَبِل، بحق، أن يدعوه تلاميذه بـ"المعلم".

تعليم يسوع دعوة حياة

لا يمكن أن يكون تعليم يسوع قائمة من التعليمات، بل نقول، استناداً إلى بعض الأمثلة النموذجية، إنه إزاحة الستار عن آفاق عظمة الإنسان التي لا حدَّ لها. ولا يبقى لنا إلاّ أن نصغي إلى ضمائرنا، يوم نفهم ما هي قيمتنا وما هي رغبتنا الحقيقية، ويوم نكتشف أن تلك المتطلبات ليست متطلبات غيرنا، بل متطلباتنا نحن. إنها لعظمة لا حدَّ لها، نعيشها في حياة وضيعة يومية، وإنها لآفاق لا حدَّ لها في قلب الآفاق المألوفة، كالعائلة والجوار والحي والمهنة... يكشف لنا يسوع كلّ ما يقدر عليه الإنسان في أبسط أنماط الحياة، شرط أن يكون في الحقيقة ابن إله هو أب.

ليس تعليم يسوع فلسفة، بل هو اختبار حياتي. لذلك لا يستطيع رسل يسوع أن يكونوا دعاة نظام فكري. ولن يستطيعوا أن يرددوا كلامه، ما لم يشهدوا لاختبار علاقة معينة مع الله. حتى لمَّا كانوا يعيشون مع يسوع، كانت شهادتهم ناقصة إلى حد بعيد. كانوا بطيئي الإيمان وسريعي التشويه وثقيلي الاحتمال. أما بعد العنصرة، فإن الروح القدس، الذي هو روح يسوع، أي ذلك الذي يُلهِم ويُنعش نشاط يسوع من الداخل، سيهب لهم أن يؤدوا في أنفسهم طريقة يسوع في العيش ونمط حياته ونوعية وجوده والحياة التي يعيشها كاملةً وفقاً لمنطق المحبة. وإلا كانت المسيحية نظاماً، أي شيئاً آخر تماماً، في حين أنها تصبح على جانب كبير من الأهمية، إن كانت اختباراً .

مواقف يسوع تعرّف عنه


يؤكَد على إنسانية يسوع عادة في مواقف الضعف، كالجوع والعطش والتعب والألم، وكأن الضعف هو فقط ما يميّز الإنسان!.. لا شكَّ أن يسوع قد اختبر ذلك بعمق، وعاش الموت بكلّ ما يحمل من عنفٍ وتمزقٍ وألم، ولكني أحب أن أتأمل إليكم جوانب أخرى في إنسانيته، كالحرية والعاطفة.. حيث التوافق بين هاتين القيمتين تمنح فرادةً عميقة للإنسان، وهكذا كان يسوع.

إن يسوع حرٌّ أمام من يحبونه، فبكل شجاعة وهدوء يقول لأبويه لمّا أضاعاه في الهيكل ثلاثة أيام: “ألم تعلما أنه يجب عليّ أن أكون عند أبي" (لو2/50). لم يقبل أن يكون محتَكَراً لمحبيه، فيذهب للبشارة في الجليل ويترك كفرناحوم وقد أصبح له فيها أتباع أحبوه (مر1/35-39). ولم يقبل أن تبكي عليه بنات أورشليم (لو23/27). ورفض رغبة المجدلية في تملّكه (يو20/17). ولم يرضخ لمشيئة تلاميذه إلا ما كان منسجماً مع إعلان ملكوت الحق، وكأنه يريد أن يقول: "لا أريد أن تحتكرني طبقة اجتماعية أو عِرق أو عشيرة أو كنيسة أو أمّة. إني حرّ ومتأهّب للعمل بمشيئة أبي".

كان  يسوع حراً أمام الشرائع والعادات. يسمح لتلاميذه أن يأكلوا في السبت (مر2/23-28). و هو بدوره يشفي يوم السبت (مر3/1-6). ويقول بحزم: قيل لكم أما أنا فأقول.. (مت5/21-00). ولا يهمه إلا أن يحقق ملكوت "حرّية أبناء الله". إن حرّية يسوع ليست من نوع المخالفة من أجل المخالفة، فبنظره ما وجدت التقاليد والشرائع إلا لتخدم الإنسان وتنمّي علاقته بالله.

كان يسوع حراً أمام كبار عصره. يتوعد بلهجة قوية الكتبة والفريسين وعظماء الكهنة وهيرودس وكلّ مَنْ كان له سلطان يستعبد أحباء أبيه (لو11/37-00، يو3/13-00، لو13/32،00 ابحث عن النصوص المشابهة).

كان يسوع حراً أمام التجارب. جرّبه إبليس، وإبليس لا يتوّرط في إغواء من لا يُجرّب سلفاً. وذلك لأن يسوع إنسان وكامل الإنسانية. فلم يهزمه فقط في البرية بعد صومه وإظهار حريته أمام حاجاته الطبيعية (لو4/1-13)، بل دائماً، وبكافة مظاهر التجارب الخبيثة. فقد هرب من المجد البشري المزيف الذي قُدِّم له في معظم معجزاته (مر6/30-46)، ولم ينتابه الغرور حين دخل المدينة المقدسة دخول الفاتحين (يو12/12-16). ولم يخَفْ، رغم ارتعاده، أمام محنة الألم والموت (مر14/61و15/5). ولم يستسلم لعواطف الحقد السلبية أمام صالبيه (لو23/34).

وبالمقابل، وبتمييز مرهف ودقيق، لبّى يسوع نداء العاطفة المنسجم في آن معاً مع إنسانيته وبنوّته لله. فحوّل الماء إلى خمر في قانا الجليل بطلب مريم أمه (يو2/1-00)، وقد أخذ عنها مجمل صفاته الإنسانية، لا بل تتلمذت إنسانيتُهُ على يدها.

لقد جعل من تلاميذه أصدقاءه. فكان يأتي إلى مكان عملهم (لو5/3-00)، وإلى بيوتهم (مت8/14). وكان يوحنا يُنعت "بالذي يحبه يسوع" (يو13/8، 19/26، 20/2، 21/8،21).

نظر إلى الشاب الغني و"أحبّه" (مر 10/21). وتأثر و"تحنّن" لدموع أرملة نائين (لو7/11-16).

رفض الخطيئة وأحبّ الخاطئين (لو19/2-00، يو8/11). وانتابته مشاعر الثورة والغضب حين رأى بيت أبيه قد تحوّل إلى مغارة لصوص (مت21/13).

قَبِلَ أن تبذل النساء، اللواتي يتبعنه، من أموالهن عليه وعلى تلاميذه (لو7/3). و"أحب مرتا وأختها ولعازر" (يو11/5)، وقد كان يرتاح في بيتهم. ودمعت عيناه لموت صديقه (يو11/35). أحبّته مريم، وقد بالغ جبران في وصف هذه المحبة، فكانت  تُصغي بتلهف لكلامه (لو10/39) وبدموعها تغسل قدميه وبشعرها تمسحهما، ولأنه الغالي أفاضت عليه طيبها الكثير الثمن (يو12/3-00).

أُعجب بإيمان قائد المئة الوثني (مت8/8-10)، وفتح محبته بشكل شمولي[7] (يو4/1-00). وتحنن على الجموع التي تبدو كخراف لا راعي لها (مر6/34)، وشفى فيهم كل من كان في مرض وسقم (مت4/23). وتفنّن بإلقاء الأمثال والخطب ليجذب سامعيه إلى ملكوت الله (لو5/1، مر4/1-2).

لقد عاش يسوع حريته وعاطفته بأمانة مطلقة لمشيئة أبيه، وهذا لا يناقض إنسانيته، بل بالعكس فملء الإنسانية هو عيش حرية وعاطفة كالتي عاشها يسوع.

الحرية: محبة!..

إن سألتموني لماذا أنا مسيحي، أجبتكم: لأني اخترت الإنجيل مربياً لحريتي! لأنه لا تقوم حرية الإنسان على القيام بما يريد، بل على الإرادة ما يعمل، أي على تحمُّل مسؤولية أعماله.

لا يكون الإنسان إنساناً صحيحاً، ما لم يتحمَّل مسؤولية حياته. فالحرية الحقيقية هي القدرة على مواجهة الموت، لا الموت الأخير، والنهائي حتماً، بل ذلك الموت اليومي الذي تفرضه ممارسة العدل والحق والحرية.

لا يستطيع الإنسان أن يبذل نفسه ويحتفظ بها. فحين يبذل نفسه حقاً، يلتزم في سبيل الآخرين. لا شك أن ذلك يؤلم ويتطلَّب تضحيات حقيقية. علينا أن نتعلم أن نموت عن أنفسنا، لأننا عبيد أنفسنا خاصة، عبيد تلك "الرغبة في الوجود" التي تستولي على صميم قلوبنا.

إنّ مثال الإنسان الحر هو المسيح، فقد فضَّل الموت بإنكار نفسه. إنَّه شاهد لحرية الله الأزلية (تأمل تجارب يسوع : لو4/1-..). وبكلمة واحدة، الإنجيل هو الكشف عن "حرية الله المحرِّرة". هذا هو تحديد المحبة نفسه. محبه البشر هي الرغبة في أن يكونوا. والرغبة في أن يكون الآخر هي العدل، وبالتالي الاحترام الذي هو في قلب العدل. لكن الآخر لا يكون، ما لم يكن حرّاً، لأنَّ الإنسان إنَّما بالحرية هو إنسان. وخارج الحرية، لا توجد إنسانية حقيقية. وفي آخر الأمر، ليست الحرية إلاّ حرية المحبة، لأنَّه خارج المحبة تسود القدرة عل السيطرة التي تظلم وتمنع الإنسان أن يكون إنساناً على وجه كامل.

"الله محبة" (1يو4/8) ونحن "دعينا إلى الحرية" (غلا5/13). إذا فهمنا أن بين المحبة والحرية تطابقاً وارتباطاً وثيقاً وعميقاً، فهمنا حقاً جوهر الإيمان.

 

2- المسيح في التفكير اللاهوتي

هناك من شكّك بألوهية يسوع، وهناك من شكّك بإنسانية المسيح، وهناك من تعثّر في التوفيق بين الألوهية والإنسانية. الكنيسة، التي صلّت سر المسيح، وعاش مؤمنوها متشبهين بيسوع، حيث التفكير اللاهوتي بالمسيح ما هو إلا دعوة التزام حياتية لكل من يؤمن به؛ حاولت التعريف عن يسوع المسيح بدقة خلال العصور الأولى لها، ولا تزال. فمن خلال ظهور بعض الهرطقات أعلنت الكنيسة عن إيمانها. ندرس اليوم ما توصلت إليه العقائد حول إنسانية المسيح ونترك للحديث القادم الكلام عن الألوهية.

التشكيك بإنسانية المسيح والرد عليه


لقدشكّكت بدعة "المظهَرية" (Docétisme)، والفالنتنيون (Valentiniens) من بعدها، بإنسانية يسوع. وهذه البدعة "غنوصية"، أسسها مارقيون (Marcion)، تعتقد أن الإنسان لا يصل إلى "المعرفة" (gnosis) إلا إذا تحرّر من عالم المادة والجسد الفاسد. فابن الله لم يتخذ جسداً بالمعنى المادي للكلمة بل اتخذ "مظهر جسد" أو "شبه جسد".

إن هذه الفكرة "لا تزال قائمة في أذهان كثيرين من المسيحيين، حتى في عصرنا الحاضر. فيسوع، في نظر هؤلاء المسـيحيين، إله يمشي على الأرض مسـتتراً في شبه جسـد بشـري. لذلك لم يحتمل مشـاقّ الطبيعة البشرية كما يحتملها سائر الناس، وإن جاع وعطش وتعب وتعذّب، فكونه إلهاً يجعله يحتمل كل تلك المصاعب دون إي ألم".

أما أبوليناريوس أسقف اللاذقية فكان يؤمن بألوهية المسيح، إلا أنه في تفسيره لوحدة الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص المسيح، اعتقد أن يسوع اتخذ جسداً فقط دون "نفس" psychi))، وإن اتخذ "نفس" فهي ليست "النفس الروحية" حيث سكن محلها الإله، فلو كان عند يسوع نفساً روحية كسائر البشر لارتكب الخطيئة واستحال عليه الفداء، حاشى. فلضمان قداسة المسيح، اعتبر ابوليناريوس أن الطبيعة الإنسانية عند المسيح ما هي إلا مجرّد "ثوب" لبسه الكلمة ليقوم بعمله الخلاصي.

إذا تساءلنا عن سبب الشك، إن في "المظهرية" أو "الأبولينارية"، أو الهرطقات الأخرى التي تنكر إنسانية المسيح، "رأينا أنه ردّ فعل طبيعياً بالنسبة إلى الذين يعلنون سيادة المسيح وربوبيته وألوهيته. فالعقل البشري لا يطيق أن تحل عظمة الله في إنسان: كيف يمكن أن يكون المسيح - الكلمة قد اتخذ لحماً بشرياً؟ كيف يمكنه أن يولد من امرأة، وهو الكائن مع الآب منذ الأزل؟ كيف يمكن الله المتعالي المتسامي (Trasendant) أن يصبح إنساناً؟ فالله منزّه عن ذلك، وخاصةً عن الجسد الذي هو مرادف للشر. لذلك كثرت الأناجيل المنحولة (Apocryphes) التي كانت تصوّر يسوع بصورة إله "يتنزّه على الأرض"، لا يحيا حياة بشرية حقيقية".. 

لقد ردَّ القديس اغناطيوس الانطاكي (110م) في رسالته إلى السميرنيّين، قائلاً: إن لم يعِش يسوع ويتألم إلا في الظاهر، فنحن أيضًا لم نخلص إلا في الظاهر، إذاك تتحول كل الحقائق في المسيحية إلى أمور ظاهرية.

أن يكون يسوع، ابن الله، في الوقت عينه إنسانا حقيقياً تاماً، ليس حقيقة واقعية وحسب، بل حقيقةٌ خلاصية. فلأن الله دخل جسدياً في لحمنا ودمنا البشريين افتدانا أيضاً في بشريتنا. إنه جمع في يسوع المسيح كياننا البشري بجملته (القديس إيرناوس أسقف ليون - القرن الثاني)، ومنذ ذلك الحين لم يعُد أي بعد بشري خارجاً عن الله أو بعيداً عنه. فالله في يسوع المسيح اتخذ كل ما هو بشري وقدسه. ومن ثم فالخلاص والفداء ليسا خلاصاً روحياً للنفس وحسب، ولكنهما يهدفان إلى خلاص الإنسان في كل كيانه. من بشرية هذا الخلاص أيضاً وُهب لنا بيسوع المسيح على نحو بشري. ومن ثم فبشرية يسوع ليست إذن قناعاً لله، ولا أداةً ميتة، ولا نوعاً من دمية بين يدي الله. فهو يحقق الخلاص من خلال طاعته وخدمته البشريتين. وهكذا أصلح بطاعته عصيان آدم. وإذا كان باستطاعة يسوع المسيح أن يفدينا، فما ذلك إلا لأنه ليس إلهاً حقيقياً وحسب، بل لأنه إنسان حقيقي (أنسيلم أسقف كانتربري) .

إنسانية المسيح في المجامع المسكونية الأولى

تعثّر النظر إلى يسوع إنساناً وإلهاً في آن معاً. فوَجدت النسطورية في إطلاق لقب "والدة الإله" (ثيوتوكوس) على مريم أم يسوع، انتقاصاً من إنسانية المسيح. وبالمقابل، راح الراهب افتيخوس (أوطيخا) وأتباعه، يفسرون وحدة شخص المسيح تفسيراً خاطئاً. فأكدوا أن إنسانية المسيح قد دخلت في لاهوته مثلما تدخل نقطة من العسل في البحر، أي أن هناك ثمة ذوبان للإنسانية في الألوهية. فصاغ مجمع خلقدونية (451) الإيمان على النحو التالي: "واحدٌ هو، وهو نفسه تام في اللاهوت وتام في الناسوت، إله حقيقي وإنسان حقيقي.. مساوٍ لنا في الجوهر بحسب ناسوته.. إننا نعترف بمن هو واحد وهو نفسه المسيح.. القائم في طبيعتين متحدتين من دون اختلاط ولا تحول ولا انقسام ولا انفصال".

"إن عقيدة مجمع خلقيدونية الأساسية قد تمّ التوسع فيها فيما بعد. فمن الحقيقة القائلة إن ليسوع المسيح طبيعة إنسانية حقيقية استُنتج أن يسوع كإنسان حقيقي له أيضاً نفسٌ روحية إنسانية حقيقية ومشيئةٌ إنسانية حقيقية تخضع للألوهيّة بملء حريتها. وهذا ما أعلنه المجمع المسكوني السادس (القسطنطينية 680-681). وحريته الإنسانية هي الأساس والشرط لطاعته التي بها افتدانا. ويتبيّن من هذه العقيدة أيضاً الطابع الإنساني الذي يتسم به خلاص الله من خلال يسوع المسيح.

وكما كان للمسيح حرية إرادةٍ إنسانية، كذلك كان له معرفةٌ إنسانية. فالكتاب المقدّس يقول  لنا إنه ينمو في الحكمة (لو2/52)، وإنه تعلّم، مما تألمه، أن يكون طائعاً (عب5/8). لذلك كان يتمتع يسوع بالمعرفة الإنسانية التي تُكتسَب بالاختبار، وبالوعي الإنساني لذاته".

خاتمة لم تكن رسالة يسوع المسيح كشفاً عن سر الله وسر العلاقة معه وحسب، بل هي كشف عن حقيقة الإنسان. فبيسوع "تتبيّن بوضوح حقيقة سرّ الإنسان". لذلك من المهم لدى المسيحي التعرف على إنسانية يسوع، والدخول من خلالها إلى "سرّه"؛ لأن من يختبر ذلك، يختبر في حقيقة  الأمر، الدخول إلى عمق كيانه. فيصبح "كل شيء يجد قوامه في المسيح.. لذلك يستطيع أن يستعمل كلّ شيء ويفرح بكل شيء. ولأن له رباً واحداً، فهو حرٌ تجاه سائر الأرباب (كو8/6). ولكن عليه أن يستعمل هذه الحرية المسيحية على النحو الذي يناسب يسوع المسيح، الذي يحيا بكليته من الله أبيه، وبه ولأجله، الذي لا يريد شيئاً من أجل نفسه، بل يريد كل شيء من أجل الآخرين. في يسوع المسيح يستطيع المسيحي ويتوجب عليه أن يكون منفتحاً تمام الانفتاح على العالم، ولكن ليس ليتشبّه بهذا العالم (رو12/2)، بل ليوجّه كل شيء إلى المسيح، ويملأه من روحه. وليس في ذلك إرهاقٌ لأي أحد ولا لأي شيء. بل بخلاف ذلك، في يسوع يتضح المعنى العميق للواقع كله. من دون يسوع المسيح، لا يمكن أن يُفهم الفهم الكامل لا للإنسان ولا للعالم. وبإحالة كل الواقع إلى يسوع المسيح، يأخذ العمل البشري أيضاً معناه الأخير. فهو ليس مشاركة عمل الله الخالق وحسب، بل له معنى أيضاً بالنسبة إلى ملكوت الله".

إن كنا قد تساءلنا في البداية هل يسوع هو إنسان "مثلي"، لا بدَّ لنا في نهايته أن نغيّر السؤال: كيف يمكنني أن أصبح إنساناً "مثله"!.. هذا هو جوهر الخلاص.