المحامي عبد الحميد الصمادي


مقدّمة "يا رب اجعلني أداة لسلامك!!.. لنبشر بالحب حيث الحقد، ولنبنِ السلام حيث الخصومة, ولنوقظ الإيمان حيث الشك، ولنبعث العزم حيث الكابة والحزن, ولنبذل الصفح حيث الإهانة, ولنعلن الحقيقة حيث الضلال, ولنحيي الرجاء حيث اليأس, ولنشع النور حيث الظلمة" ...... كانت هذه صلاة فرنسيس في مناجاته .
  في عصر العولمة والإنترنت أصبح العالم ليس كقرية صغيرة فحسب بل بيتاً واسعاً. إنّ السلام والعدل والمحبة والتسامح والتضامن والصفح والكرامة الإنسانية قواسم مشتركة للقيم التي تدعو إليها الرسالات السماوية ومعظم الفلسفات الأرضية.
 وفي عصر طغى فيه حب الذات وإشادة المعابد للمادة, والتنكر للروح نرى أهمية الدعوة للاقتداء بحياة الأنبياء والقديسين والصالحين, ومن أهم نقاط الاقتداء الدعوة إلى الحياة الروحية .. التي تسمو على الطقسيات سمو اللباب على القشور, وإن كانت القشور تعين على حفظ اللباب, وتحوطه بحرز لابدَّ منه. وإلى هذا الجوهر أشار السيد المسيح بقوله: "إنّ ملكوت الله في داخلكم"..
 فالحياة الداخلية هي اتصال مباشر بالله, ولا ريب أنًّ للمطالعات الروحية وقعا في النفس, يملك عليها مشاعرها ويبعث فيها الغبطة, لأن روحاً علوياً يشيع فيها, فتقرأ وراء السطور أكثر مما تقرأ في السطور.
 يقول غوستاف تيبون: "الخطيئة الجوهرية , بل ربما الخطيئة الوحيدة هي محاولة إرواء العطش الأبدي بالنهل من كؤوس الزمن" . 
 إنه ثمة أسلوبين لتلقي الأشياء: الأول إعطاءها طابعاً أرضيًا يجعلها تقصينا عن الله.
والأسلوب الآخر نتلقى به الأشياء على أنها هبة من الله, مما يسبغ عليها طابع السماء, ويجعلها تقذف بنا بين يدي الله, وهذا هو أسلوب الروح وعمله، وعليه فإنّ كل الخيرات نابعة من الله وينبغي أن تعود إليه, وعلى البشر تأمين هذه العودة بشكر الله وبالمشاركة فيما بينهم.
 ومن أهم الخيرات التي يتحتم إعادتها إلى الله هي الإرادة , تلك الثمرة التي أدّت الرغبة في التمتع بها في معزل عن الله إلى طرد الجنس البشري من الفردوس.
 أبوانا الأولان كانا يعرفان الله طالما لم يستأثرا بإرادتهما , ولكن الاستئثار بالإرادة يوصد دون الإنسان كل ُسبل المعرفة, فالمعرفة هي نور النفس واستقامة الإرادة, وصفاء القلب, ولا شأن لها بغزارة العلم.
 إنّ الفرق بين القداسة والضحالة, بين السمو والتفاهة: قضية إرادة, واستجابة لنداء. ووراء كل حياة فاشلة, وكل غاية لم يتم بلوغها, خطوة لم يجرؤ المرء على اجتيازها, ومخاطرة تقاعس عن خوضها.
إنّ العلم المزهو بذاته يقود إلى الكبرياء التي تحجب صفاء الرؤية, وإلى الأنانية التي تستعبد صاحبها, وإنّ من يتحرر من ربقة إرادته الخاصة, ويستسلم لمشيئة الله تتبسط إرادته وتتحرر, ومن ثم تتسع وتتعمق بحجم الكون, ولا يعود شيء يفصله عن العمل الخلاّق ,إذ يصبح طيعاً بين يدي الله الذي يصنع منه ما يشاء , ويقوده إلى حيث يشاء, فيسير بهدي السماء.
 من هنا فالقديسون هم أمل العالم, لأنهم يشقّون دروب المصالحة في غابة التاريخ, ويُبقون جذوة الروح في ليل الإنسانية المدلهم وفي شتائها القارس.
 وضمن هذا الإطار تأتي أهمية دراسة حياة القديسين والصالحين ومنهم القديس فرنسيس الأسيزي الذي قيل عنه بأنه أكمل صورة للمسيح...
 يُعزى إلى لينين قوله وهو يحتضر: "قد أكون ضللت طريقي, فالعالم في حاجة إلى حفنة من أمثال فرنسيس, أكثر من حاجته إلى ثورة"
وإنني أشاطر الأديب الكبير الأستاذ أديب مصلح قوله: "لقد تعلمت من تجربتي مع غاندي وفرنسيس أنّ معاشرة أولياء الله الحميمين حافلة بالمخاطر ولقد طالما طاردني إنذار فرنسيس: "علينا نحن خُدام الله أن نشعر بالخزي , فالقديسون هم قد فعلوا, أمّا نحن فنكتفي بسرد ما فعلوه كي نستمد لأنفسنا من جراء ذلك التكريم والتمجيد"
بعد هذه المقدمة ندخل إلى عالم القديس فرنسيس الأسيزي...

أسيزي
 هي مدينة إيطالية زراعية صغيرة, تربض على سفح جبل "سوبازو" في منطقة "أومبريا" وعلى مقربة من مدينة "بيروجيا" الجامعية في وسط إيطاليا.
 وتاريخ هذه المنطقة يضرب بعيداً في أغوار الماضي السحيق, ويحفل بالتعاقب الحضاري إلى أن عرفتْ الإله الواحد, بفضل بُشرى الإنجيل التي آلى فرنسيس على نفسه العودة إلى منبعها وأصالة سموها، وذلك بعد اثني عشر قرناً من انتشارها.
 ولا بدَّ من الإشارة أنّ القديس روفان القادم من الشرق, كانت له اليد الطولى في نشر المسيحية في أسيزي, والتي عرفانا بفضله اتخذته لها شفيعاً وأطلقت اسمه على كاتدرائيتها.
 وخلال متابعتي لبرنامج تلفزيوني عن الفن الإيطالي ورد أن أسيزي ثاني مركز ديني في إيطاليا.
 المهم أنّ أسيزي هي موطن فرنسيس فحسب.   أسرة بيروناردوني:
 قبل أن يقترن اسمه بأسيزي, كان فرنسيس يحمل كنية بيرناردوني فهو الابن الأكبر لبيتر بيرناردوني تاجر الأقمشة وهو أحد أثرى تجار أسيزي وزوجته الفرنسية السيدة "بيكا" . المرجح أنه ولد في ربيع عام 1182م.
 ولا نستغرب أن غدت سيرة فرنسيس أعجب من أسطورة وأن تزدهر الأساطير حول ولادته.
 فقد رُويَ أن أجل مولده قد حل, ومضت أيام عديدة ولم تشعر"بيكا" بآلام المخاض, فاستبد بها القلق وحينئذ طرق باب المنزل عابر سبيل, وأوعز إلى الخادم بإبلاغ السيدة بأن عليها المثول إلى الإسطبل الملحق بالمنزل وانتظار مولودها فيه.
و يُقال أنه ما كادت السيدة "بيكا " أن تضطجع على القش حتى داهمتها الآلام ولم يطل بها الأمر حتى أهلّ وليدها على غرار طفل المغارة "السيد المسيح" ..
 وبعد بضعة أيام من ولادته, طرق متسول وألح في رؤية الوليد وما إن تناول هذا الغريب الطفل بين ذراعيه, حتى تنبأ قائلا: بأنّ ذلك اليوم الذي ولد فيه الطفل قد شهد ولادة صبيين في أسيزي, سيصبح أحدهما من أفضل الناس, فيما سيصبح الآخر من أسوئهم, وقد أجمع المعلقون على أن فرنسيس هو الأفضل ومضوا يجتهدون في استبانة الأسوأ؟...
ولكن ألا يمكن أن يكون كلاهما واحدا ؟ الأسوأ: فرنسيس الشاب الضال، والأفضل: فرنسيس الذي استسلم لفعل النعمة وانتهج أوعر الطرق سبيلا ًإلى الكمال.
أولا يتعايش في حنايا كلّ ٍ منا الأفضل والأسوأ معا؟
والحرب ناشبة أبدا بين قوى الشر المتحكمة بوهننا, ونوازع القداسة التي تؤرقنا.
 اختارت الأم لوليدها اسم "جيوفاني" أي يوحنا تيمنا بالمعمدان , وكان الأب مسافراً، فلما عاد بدل اسم الطفل فجعله فرانسيسكو أي فرنسيس, ويبدو أن ذلك كان تحية ومودة منه لـ "بيكا ".
 وتعلم الطفل من والديه اللغتين الفرنسية والإيطالية, وأخذ اللغة اللاتينية عن قس الأبرشية, ولم يكن له بعدئذٍ نصيب من التعليم المنظم {وقد ظل فرنسيس حتى آخر أيامه يصف نفسه بالجاهل مع أنه في معايير زمانه كان مثقفا ً}.
 وقد استمد سجاياه المحمودة من أمه المعروفة بالوداعة والقوة والإيمان وبوقف حياتها على خدمة أسرتها, فنشأ الطفل طافحاً بالحياة لطيفاً رقيقاً ساذج القلب.
 وقد مرنه والده على أعمال التجارة، وسرعان ما انتظم في عمل أبيه فمهر في البيع والربح, إلا أنه أغضب والده بما أظهره من قدرة على صرف المال تفوق قدرته على كسبه, فقد كان أغنى شباب البلدة وأسخاهم يدا، يجتمع حوله أصدقاؤه يطعمون معه ويشربون, ويغنون أغاني الشعراء الغزليين... وكان شاباً وسيماً صبوح الوجه, جميل الصوت.
 ويقول مترجمه الأولون: بأنه لم تكن له قط صلة بالنساء ...
 قارب فرنسيس العشرين من العمر, وهو عامر بالأحلام والآمال, وكان يتحمس لكل ما يتعب ويرهق, ويجد السرور بذلك, وأخذ يضطرم شوقا إلى أن يحيا ويحارب في سبيل الوطن... وإذا بالحرب تنشب بين أسيزي و بروجيا فكان ذلك مناسبة جديرة بميول فرنسيس، دفعته إلى أن يكون في عداد الفرسان المتسلحين، وهو يطفح جرأة واعتزازاً وشباباً.
 تأججت المعركة فوقع فرنسيس أسيراً بعد أن كان في طليعة القوم ومع ذلك ظل قرير العين، بشوشاً في أسره، وبالرغم من ضيقه، كان يشدد عزيمة رفاقه .
 وقضى في الأسر سنة كاملة شغلها كلها بالتأمل العميق .
 ولمّا عاد من السجن ابتلي بالمرض، فكان ذلك أول آثار النعمة، التي جعلت قلبه يتجرد مما ألفه من أفراح الدنيا .
 ثم تطوع في جيش البابا إنوسنت الثالث عام /1204م/ وبينما هو طريح الفراش ينتفض جسده من الحمى التي أصابته، إذ خّيل إليه أن صوتاً يناديه: "لم تهجر الإله إلى الخادم، والأمير إلى تابعه ؟؟"..  فنادى فرنسيس ذلك الصوت: "رباه ماذا تريدني أن أفعل!!..".
فما كان منه إلا ّ أن ترك الجيش وعاد إلى أسيزي، وقل اهتمامه بتجارة أبيه وازداد اهتمامه بأمور الدين .
 وتغلب فرنسيس على الشغف بشؤون الدنيا وراح يرحب ترحيباً سخياً كاملاً بدعوة الله، فانتعشت حياته بروح جديدة، وجعل يعكف على الصلاة والتأمل، ويتردد إلى العزلة، وكان أول امتحان يتعرض له هو رؤيته لأبرص أثناء تجواله على جواده في حقول أسيزي، وأقبل هذا الأبرص نحوه وكان شنيع المنظر يثير الاشمئزاز، فسولت له نفسه أن يهرب من مواجهته!!.
إلا أنه تمهل، ونزل عن جواده، ولم يأنف من معانقة هذا الأبرص وتقبيله فشعر أنه أمسى شخصاً جديداً، وبأن نوراً جديداً سطع في باطنه، وعاطفة جديدة شرعت تطفح من قلبه... وبعد ذلك توجه إلى خدمة البرص، وصار يتردد إلى المستشفيات، ويزور السجناء، ويدافع عن المضطهدين، ويعزي الحزانى...
 وقد ترك فرنسيس في وصيته ما يلي: "عندما كنت أتخبط في الخطايا، كان يشق علي أن أشاهد البرص، لكن الرب اقتادني إليهم، فانقلب الأمر عذباً على قلبي وجسمي حتى هجرت العالم".. "إنّ نعمة الله تجعل المستحيل ممكناً" .
 لقد حررته قبلته للأبرص من أغلال خانقة كانت تكبله، وكان ذلك أعظم انتصار حققه فرنسيس، إذ انتصر على ذاته وبات حقاً سيد نفسه .
 ولكل امرئ ٍ في حياته، أبرص من نمط ٍ خاص، لا بدّ أن يتجرأ فيقبله، كي يظفر بالتحرر..
  بعد ذلك انقطع فرنسيس إلى الخلوة في كنيسة داميانس القديمة {وهي كنيسة متصدعة البناء} وهناك خُيل إليه أنه سمع صوت يسوع، يقول له: "قم يا فرنسيس رمم بيتي المتداعي" .. وفي مراجع أخرى: "قم يا فرنسيس أصلح كنيستي" ..
لم يظن فرنسيس أنّ هناك معنى آخر لقول يسوع فراح يرمم بيديه الكنائس والمعابد المتداعية المتصدعة، إلا أنّ العناية الإلهية ما لبثت أن أقامت من فرنسيس صياداً للنفوس...
حيث أدرك في تواضعه بأنّ الدعوة لم تكن إلى بناء كنائس من حجارة فحسب بل إلى بناء كنيسة النفوس أيضاً.
 وأمام أسقف المدنية وبمشهدٍ مؤثر أعاد إلى والده ما لديه من مال وكذلك الملابس التي كان يلبسها {نتيجة شكوى من والده عليه إلى الأسقف} .
 شعور رائع بالتحرر والانطلاق، والفرح الدافق، كان يستولي على نفس فرنسيس بعد أن تجرد من كل شئ .
قلة من البشر هم الذين تسنى لهم مثل هذا الشعور، وقد حدثنا عن مثله غاندي الذي صرح بأنه: مذ تجرد من كل امتلاك، اغتنت تجربته بعناصر أربعة: الحياة والقوة والحرية والفرح.
  في مطلع عام 1208 م كان فرنسيس في حوالي السادسة والعشرين من عمره وقد أصبح إنسانا آخر! وبينما هو في كنيسة مريم سيدة الملائكة سمع في قراءة القداس الإنجيلية آية أثرت فيه تأثيرا بالغاً: "اذهبوا وأعلنوا البشارة وقولوا: قد اقترب ملكوت السماء".. فأوحت هذه الوصية الإلهية لفرنسيس بتجاوز العزلة التي جاء إليها يبحث عن الله وسط طمأنينة الحقول وتغاريد العصافير. فقد تبين له السبيل الواجب عليه سلوكه, سبيل الحياة الإنجيلية, بعثته على أن يطوف الأرض هاتفا بكلمة المعلم ... وإذا به يزهد أكثر، فأخذ يخاطب الجماهير.. وهكذا أصبح واعظاً. وعلى آثار يسوع كان فرنسيس يمر بالقرى والمدن يعمل الخير ويعظ بحب الله و التقوى والتواضع, وكانت الجموع تخرج لملاقاته يحمل بعضهم أغصان الزيتون يهتفون: هو ذا القديس، ها هو القديس!  يقول القديس فرنسيس في النصائح :
"نعرف أنّ عبد الله يُنعَم بروح الله , إن صنع الرب على يده خيراً ما, فلا يفخر, بل يستخف بذاته, ويعتبر نفسه دون الآخرين"..
 لم تكن طباع أهل ذلك الزمان أفضل من طباعنا, ولكن كانوا يمتازون بشيء من الفطرية, فكان فرنسيس يجتذب الناس بإنشاده بحمد الله وتسبيحه, ثم يخطب فيهم, فيتأثرون بكلامه وبعضهم يلتحقون به.
  قام فرنسيس وتناول الأمر بطريقة مسيحية فأنشأ أسرة رهبانية هي "أسرة أخوة" يتساوى فيها الجميع .. وكانوا يقومون في النهار بكل عمل يطلب منهم, ويخصّون بنشاطهم الفلاحين في الحقول, والمرضى في المستشفيات, وينتقلون من بيت إلى بيت يلقون في القلوب المحبة والإيمان والسلام, ويعلمون الناس حب الحياة. وفي الليل الصامت كانوا يقبلون على الصلاة والتأمل.. وهكذا أقام فرنسيس "رهبانية الأصاغر"، التي قامت على الفقر والتواضع والمحبة والصلاة والعمل.  في ليلة من صيف عام 1210 رأى البابا إنوشنسيوس الثالث حلماً مرعباً, تمثل له فيه أن كنيسة القديس يوحنا اللاتراني (الكنيسة الأم) قد أخذت تتداعى وتنذر بالانهيار فاستولى عليه الحزن والخوف مما جعله يصيح "أنقذوا الكنيسة"!.. وإذ يتراءى له على حين غرة شخص فقير, قصير القامة, خشن الثوب, مؤتزرًا بحبل, يرافقه اثنا عشر رجلاً يرتدون الزي نفسه. فتساءل البابا: "ماذا عسى هذا الشخص أن يفعل؟".. وإذا بهذا الشخص الفقير يعانق الكنيسة ويسندها ويتوصل بجرأة إلى توطيدها وتثبيتها.. فتوجه البابا إلى الله يدعو: "رب.. ليت هذا يتحقق!".. وعندما جاء فرنسيس و إخوته إلى روما ليطلعوا البابا على مشروع رهبانيتهم تبين أن ّوصف فرنسيس ينطبق على وصف الشخص الذي تراءى للبابا في الحلم
وكان البابا أشنسيوس الثالث من أكثر باباوات القرون الوسطى حزماً ونفوذاً ورهبةً, ومن أكثرهم أيضاً رغبة في إصلاح الكنيسة. فعندما طلب فرنسيس الاعتراف بـ "الأخوية الرهبانية" التي أنشأها لم يتردد بالاعتراف بها شفاها, ولكي يُسبغ الحبر الأعظم على هذه الأخوية طابعاً مميزاً أمر بقص شعر رؤوسهم قصة مستديرة على شكل إكليل، علامة على تكريسهم , و دعاهم إلى انتخاب فرنسيس رئيساً عليهم , كما حثَّ فرنسيس على أن يكون لهم الراعي والدليل.
رجع فرنسيس وإخوته تصحبهم بركة نائب المسيح, إلى وطنهم (إمبريا) وقد أصبحت (جليل) إيطاليا {تشبها بجليل فلسطين}, وكذلك أصبحت كنيسة سيدة الملائكة بمثابة (مهد) لهم [تشبها بكنيسة المهد في بيت لحم]، وجعلوا يسيرون في المدن اثنين اثنين, يحف بهم جو عجيب من أخوة حدت بالكثيرين على الانضمام إليهم .   بعض رفاق فرنسيس:
 أول رفيق معروف لفرنسيس هو برناردو دي كوانتافالي وهو أحد وجهاء أسيزي وأثريائها, وقد حصل على شهادة دكتوراه في الحقوق من جامعة بولونيا الإيطالية. وكان قد اشتهر بسداد رأيه وحرصه على تمحيص الأمور, واستقراء أسبابها وعواقبها. حيث غدا مرجعا للكثيرين في النهج الذي يتوجب عليه سلوكه.
 الرفيق الثاني يدعى بييترو دي كاتانيا, صديق لبرناردو, وهو أيضاً حقوقي ووجيه وكان المستشار القانوني العلماني لأبرشية أسيزي. لم يكن يلزمهما سوى التخلي عن كل شيء وارتداء ثوب الرعاة الخشن مثل فرنسيس كي يصبحا الأخ بيرناردو والأخ بييترو, بعد أن مات فيهما الوجيه والثري و العالم.
 أما الثالث فهو سلفستر, كاهن بخيل, سبق وأن باع فرنسيس حجارة لترميم كنيسة داميانس, ولكن عندما رأى فرنسيس يوزع قطع ذهبية متبرع بها على المعوزين والفقراء في ساحة جاورجيوس في أسيزي ( في نيسان عام 1208 ) يومها دنا هذا الكاهن من فرنسيس وادعى أنه تلقى ثمنا بخسا لتلك الحجارة... إلا أنه بعد محاورة بينه وبين فرنسيس أصبح سلفستر هو الكاهن الأول في جماعة فرنسيس بعد أن ترددت في حنايا صدره كلمات المسيح: "لا يستطيع الإنسان أن يعبد ربين.. الله والمال".
 ألبس فرنسيس جماعته زيا من النسيج الخشن ذي اللون المُغبَر لون العصفور الدوري الذي كان أثيراً على قلب فرنسيس. وحتى الآن لا يزال الفرنسيسكان يلبسون ما يشبه هذا الزي.
 في عام 1211 بلغ العدد نحو أربعين أتوا من شتى المنابت والطبقات وكل منهم احتفظ بأسلوبه الخاص في ممارسة حياته الفرنسيسكانية, وفي الإسهام في شؤون الأخوية, فموريكو كان حطاباً، وإيجيديو كان صانع سلاسل, و انجيلو كان صياد سمك يستبدل حصيلة صيده بالخبز والزيت لإطعام إخوته, في حين كان الطويل يساعد الفلاحين في الحصاد ويعود كل يوم بشيء من الحب يطحنه أحدهم و يخبزه آخر. أما ساباتينو فكان يعمل كرّاماً, و فرنسيس أيضا كان يساعد الفلاحين في القطاف أو أي عمل يدوي آخر ... وهكذا بقية الجماعة.
 ومن أعجب من جاؤوا إلى فرنسيس فتاة من أسيزي تدعى كلارا, كانت غنية وجميلة ومن أسرة شريفة, وكان في وسعها أن تحظى بمنزلة عالية في الحياة, ولكن ما إن سمعت ذات يوم عظات فرنسيس في الله حتى استقر رأيها على أن تتبع فارس المسيح البطل. ففي 1211 بادرت إلى سلوك سبيل الفقر والتواضع والعمل, ووقفت حياتها على خدمة الله. وهكذا كانت "كلارا" النواة لنشوء "الرهبانية الثانية" التي لقبها فرنسيس برهبانية "السيدات الفقيرات" ومهدها كنيسة القديس داميانس ..
أجل كن فقيرات, ولكنهن سيدات, فالسيادة الحق سيادة الروح...   ذات ليلة من عام 1216 وفي معبد سيدة الملائكة, حيث كان فرنسيس يضطرم حباً في الله تراءى له يسوع ومريم يحف بهما العديد من الملائكة, فأوعز إليه يسوع بأن يسأله ما يشاء لخير النفوس فأجابه فرنسيس: "أسألك أنا الخاطئ المسكين غفراناً كاملاً لكل تائب اعترف وتناول وزار هذه الكنيسة"، فقال يسوع: "طلبتك عظيمة جدا وإني لمجيبك إليها, فاذهب إلى نائبي على الأرض و اسأله باسمي هذا الغفران".. وفي فجر الغد، اصطحب فرنسيس أحد الرهبان وذهب إلى البابا في بروجيا حيث كان يومئذ "هونوريوس الثالث" فوقفا بين يديه طالباً منه فرنسيس الغفران لكل تائب، و أخذ البابا العجب من طلب فرنسيس فسأله: إلى كم سنة تريد هذا الغفران؟.. فأجابه فرنسيس: "أيها الأب الأقدس: أنا لا أطلب السنين, وإنما أطلب النفوس".. ثم ردد فرنسيس قول يسوع، فأجابه البابا بأنه لم يسبق له أن منح مثل هذا الغفران.. أجاب فرنسيس: "أيها الأب الأقدس لست أنا الذي أطلب هذا الغفران, إنما يسوع المسيح أوفدني إليك" , فتأثر البابا تأثراً بالغاً .. ثم قال ثلاثا: "باسم الله أمنحك هذا الغفران للأبد, فيمكن اكتسابه مرة في السنة, من العصر إلى غروب اليوم التالي, .."  وقد مدَّ الأحبار الأعظمون هذا الإنعام إلى جميع أيام السنة.

توجه أبناء الرهبانية الجديدة لفتح العالم من غير غنىً أو سلاح.  يقول أنطوان دي سانت اكسو بيري: "يبغض الناس بعضهم بعضا لأنهم يعانون من البرد" ، وكان فرنسيس، وهو الرقة المتجسدة, يعرف سر بعث الدفء في الآخرين ومن ثم حملهم على المصالحة, فالقلب الذي يسودّ فيه السلام يصالح من يلامسه، أي عدوى، وقد ذكرت في موضوع الثقافة بأن الثقافة طهر والطهر يعدي ... القداسة تثير إعجاب الكثيرين, بيد أنّ عدواها لا تصيب سوى القلة. وقداسة فرنسيس سرعان ما عمت واعترفت بها الجماهير في أسيزي و جوارها, أما الرغبة في احتذائها, فكانت بادئ الأمر نادرة بطيئة ومبعثرة. والجدير بالذكر أنّ إيطاليا التي كانت حقلاً لتبشير فرنسيس الإنجيلي كانت في الوقت ذاته ساحة تتصارع عليها شتى البدع والمذاهب, فلم يقاومها فرنسيس بالعنف أو الشتيمة أو الجدل العقيم والحُرم الكنسي على نحو ما فعل رجال الأكليروس آنذاك, بل أشاع روحا جديدا, جعل كل البدع تتلاشى, و تتوارى تلقائيا كما تتوارى الخفافيش لدى شروق أشعة الشمس الساطعة. فالمحبة, ومثال الحياة خير عظة. وثورة القدوة أبلغ أثرا وأبقى بما لا يقاس من الثورات العنيفة.
 كان فرنسيس يرفض كل مال وكل امتلاك, ويتوخّى فقراً مطلقاً, وعليه هو وأخوته أن يعملوا لقاء بُلغة العيش, ولا يقبلوا من أجر سوى طعام يومهم, وأن يرفضوا المال رفضاً مطلقاً, إلا ما كان منه لازماً لابتياع الدواء لأخٍ مريض. فالمال كالدود في الثمر يفسد العلاقات بين البشر. ويبرر فرنسيس عدم الامتلاك بقوله: "لو كان لدينا ممتلكات لكان لزاماً علينا أن نمتلك أيضا أسلحة للدفاع عنها، ويسوع ينهى عن الحرب ويأمر بالسلام بين البشر, فكل امتلاك يولد لا محالة خصومة مع القريب, من شأنها النيل من محبة الله و محبة الناس. ومن ثم لكي نحتفظ بهذا الحب نقياً وسليماً فنحن عازمون عزماً مطلقاً على ألا نملك شيئا في هذا العالم".
أذكر قولاً لبوذا: "إنّ همّ الإنسان فيما يملك, فمن كان بلا ملك كان بلا هم ".
   
 يمتاز الفرنسيسكانيون عن سائر الرهبان ورجال الكنيسة بالمساواة فيما بينهم وانعدام الألقاب, والطبقات والسلطات وبتسميتهم "أخوة" وبتسمية جمعيتهم "أخوية". والحقيقة أنّ هذا النهج يعتبر فتحاً في الكنيسة والمجتمع. أما ميزتهم الرئيسية فتعبر عنها التسمية التي أطلقها عليهم فرنسيس "الإخوة الأصاغر" وذلك على حد قوله: "لكي لا يتطلعوا يوماً إلى أن يصبحوا كبارا ًويرتقوا فوق الآخرين, فهم مدعوون إلى أن يبقوا في الأسفل وأن يقتدوا بتواضع المسيح ". وحظر عليهم قبول أية وظيفة يمارس فيها الأخوة إدارة أو سلطة على أي كان, بل على كل منهم أن يكون الأصغر. 
.. كتب فرنسيس في نظام الأخوية عام 1221: "على الأخوة أن يكونوا سعداء عندما يجدون أنفسهم في صحبة صغار القوم الوضيعين والمحتقرين والفقراء وذوي العاهات والبرص والمتسولين "... أي ما يطلق عليهم في الهند "المنبوذين" و"الأندبور" (أندبور جمع، مفردها أندبوري أي فقير هندي). وأذكر هنا قولاً لـ "طاغور": "إنّ قلبي لن يجد سبيله نحو من ترافقهم, بل نحو من لا رفيق لهم من الفقير والحقير والضائع والمسكين" .
 لم يكن فرنسيس لاهوتياً ولا رجل قانون, ومن ثم لم يكن بوسعه الدفاع عن قضية الإنجيل والفقر المطلق, إلا بصفته صوفيا ينفّذ بفرح جميع وصايا المسيح ... وبالفعل كان فرنسيس الأنموذج والمثل لمجموعة "الأخوة الصغار". وقد ورد في الموسوعة العالمية : "أنه من المحتمل ألا يكون أي فرد في التاريخ قد قام بنفسه كما فعل فرنسيس في تقليده حياة المسيح و ما أمر به حرفيا, حيث تحول من حياة الدير التنسكية الآمنة إلى تتبع حياة المسيح, وكان ذلك مفتاحا لأسلوب حياته كمحب للطبيعة وفاعل اجتماعي ومحب للفقر وواعظ جوال .
وبالتأكيد فالفقر ومحبته تبدوان جزءاً من روحه وفخره, واعتبر أنّ الطبيعة مرآة لله وأنها خطوات إليه, ودعا جميع المخلوقات أخوته, ففي كتاب: تسبيحات الخلائق أشار إلى أختنا الشمس, وإلى أخينا القمر, وإلى أخوينا الريح والمطر, وحتى إلى أخينا الموت.. ".. استطاع فرنسيس بفضل التنكر عن الشهوات إقامة علاقات سلام مع الجسد المروض الذي استغنى عن كل مطلب خاص, فبات بإمكانه أن يدعوه "أخانا الجسد". وبالتالي استبعد واستنكر أساليب تعذيب الذات التي يلجأ إليها بعض النساك . وكان يؤكد على جماعته بأنه على كلٍٍٍٍٍٍٍّ منهم أن يعطي جسده حاجته لكي يجد فيه خادماً قادراً على تلبيته. ومع أنه يتوجب عليهم الحذر من الإفراط في الطعام الذي لا يقل ضرراً بالجسد عن ضرره بالنفس, إلا أنه يتحتم عدم الإفراط في التقشف.
 في أحد الأيام كان على سفر مع الأخ ليون الذي خارت قواه فجأة, وكان إلى جانب الطريق كرم عنب, فانسل إليه فرنسيس واقتطف منه بعض عناقيد أعادت للأخ ليون نشاطه ولكن ما لبث أن انقض صاحب الكرم على السارق وهو فرنسيس فأوسعه بعصاه ضرباً وكانت مناسبة كي يشكر فرنسيس للرب امتحانه له, ولشدة فرحه ظل طوال الطريق يمازح الأخ ليون منشداً ومكرراً : "الأخ ليون أكل ما لذ وطاب.. وفرنسيس هو الذي أدى الحساب... الأخ ليون تمتع.. وفرنسيس هو الذي توجع.   لقاء مع أمير المؤمنين:
استغل فرنسيس هدنة عقدت بين فريديريك الثاني والملك الكامل (السلطان الأيوبي في مصر), فعزم على المثول إلى ديار المسلمين لمحاورتهم عوضاً عن مقاتلتهم, رغم معارضة القادة العسكريين والأساقفة. فاصطحب أحد الإخوة ومضى, ولم يكن يعتبر أحداً عدواً بل كان يرى في كل إنسان صديقاً محتملا ً؟ وما لبث أن اعترضه ورفيقه، جنود الملك، فهتف بأعلى صوته "سلطان ! سلطان!"، فأوثقهما الجنود ومضوا بهما إلى المعسكر, حيث أوضح فرنسيس رغبته في محاورة السلطان.. وكان الملك الكامل من سعة الفكر والتسامح, والاهتمام بالنقاش حيث رحب بالراهبين, وسرعان ما أخذت السلطان بالراهب مشاعر المحبة والإعجاب وانعقدت بينهما وشائج صداقة حميمة, ودعا السلطان فرنسيس إلى البقاء بجواره.. فاعتذر فرنسيس, فأغدق الملك الهدايا على فرنسيس الذي رفضها كلها رغم حث السلطان له على أخذها وإنفاقها على الفقراء, ويقال إنه اقتصر من كل تلك الهدايا على بوق بات يستعين به على دعوة الناس إلى سماع عظاته. ويُقال إن الملك الكامل قد دعا فرنسيس للصلاة معه في أحد المساجد فلم يتردد القديس في الاستجابة لتلك الدعوة, وقال: "إنني سأدعو, .. ربي, فالله في كل مكان"!..
ولا ريب أن ذلك اللقاء قد قوم لدى كل من الرجلين فكرة مسبقة خاطئة عن معتقد الآخر, فاتضح لفرنسيس أنه يمكن أيضا عبادة الله الواحد خارج المسيحية, كما تبين للملك الكامل أنّ المسيحيين الحقيقيين هم دعاة حب وسلام. وبالإجمال كانت تلك حقاً خطوة "مسكونية" قبل الأوان. وقد شقّ فراق الرجلين على كليهما, وأنفذ الملك مشيعين واكبوا فرنسيس ورفيقه حتى مخيم المسيحيين.
 اضطر فرنسيس للعودة إلى إيطاليا مسرعا إثر خلاف نشب بين أتباعه، حيث تنازل في عام 1221 عن رئاسة الرهبنة تواضعاً وتيسيراً للأمور, ثم واصل وعظه, ومضى في حياة التقشف. باذراً أينما حل كنوز كلامه وفضيلته.   مجمع الحُصر: مما ينطق بصلاح الرهبانية الفرنسيسكانية المجمع المسمى بمجمع الحصر (بسبب الحصر التي أعدها فرنسيس لسكن الرهبان) حيث بلغ عدد الذين استطاعوا الحضور نحو خمسة آلاف أخ قدموا من إيطاليا ومن أقطار عديدة .
قام فرنسيس في المجمع وخطب في الإخوة قائلا ً: "قصيرة هي لذة الدنيا!! أبدي العقاب الذي يليها!! الألم وقتي, أما مجد الحياة الأخرى فلا حد له "

في سنة 1221 أخذ غصنا جديدا ينمو على الجذع الأصيل، إلى جانب الأخوة الأصاغر وراهبات كلارا (الرهبانية الثانية)، وهذا الغصن هو الرهبانية الثالثة: وهذه الرهبانية أنشأها فرنسيس للعلمانيين من كلا الجنسين, ووضع لها قانونا يرمي إلى تقديس حياة أولئك, من غير أن يتركوا العالم . وفي سنة 1223 أقر البابا (هونوريوس الثالث ) رسميا الرهبانية الفرنسيسكانية .   مغارة عيد الميلاد لما اقترب ميلاد سنة 1223 راودت فرنسيس فكرة بأن يعيد ذكرى ولادة يسوع الطفل كما ولد في بيت لحم , حيث عثر على مغارة واسعة فأقام فيها مذودا ونثر على الأرض تبنا وأحضر ثورا وحمارا, وأعد كل ما يلزم للاحتفال، وتوارد المسيحيون من الضياع القريبة, وبأيدي بعضهم المشاعل, وألفوا شبه إكليل ضمن المغارة. وعند منتصف الليل أقيم القداس الإلهي, وخدم فيه فرنسيس كشمّاس إنجيلي, وألقى على الحاضرين خطبة في سر الميلاد.
ومنذ ذلك الحين جرت العادة أن تقام مغاور الميلاد, لتدخل السرور على قلوب الملايين من الصغار, وتحرر من الجمود قلوب ملايين الكبار ..

مصالحة يروى عن فرنسيس أنه صالح أهالي ( جوبيو ) مع الذئب الذي كان يروعهم حيث عاش الذئب سنتين بعد ذلك، يُقدم الأهالي له الطعام دون أن يؤذيهم
 ولا عجبَ أن يأنس فرنسيس بالحيوانات , ولا سيما بالطيور ويشغف بها , ويحبها ويخاطبها، وهو القديس الشاعر يرى ما بين الإنسان والحيوان والنبات والبحر والطبيعة كلها من قرابة وثقى متأتية من الأصل الواحد , فيحس في كل جوارحه وأعماق نفسه بما يربط الخلائق بعضها ببعض ويربطها جميعها بالله. وفي كتاب "الزهيرات" أمثلة كثيرة ومنها عظته للعصافير.. بلغ فرنسيس في تجواله بقعة من الأرض كثيرة الطير حتى لتغدو جنة غناء . فكانت العصافير تتطاير وتتلاحق وتسعى إلى قوتها وهي تزقزق .فوقف يتأملها , وقد أخذ منظرها بمجامع قلبه فقال لرفيقه: دعني أعظ اخوتي العصافير!.. وغادر الطريق إلى حيث العصافير. وما أن بدأ بالكلام حتى حطت حوله ساكنة, كمن يصغي ويفهم , وهو يروح ويجيء, وهي لا تنفر: "عليكم، لله أيتها العصافير , أن تعرفوا جميله وتسبحوا بحمده في كل آنٍ ومكان، لقد أعطاكم أن تطيروا حيث شئتم, وكساكم من الكسوة ثوبين أو ثلاثة, ووفر لكم من الطعام ما لا تتعبون فيه, وعلمكم أن تغنوا وبارككم بكثرة النسل".. وتابع وعظه لهم إلى أن قال: "حذارِ، إخوتي العصافير , من نكران جميل الله وجحد آيات فضله والتقصير في حمده ".. وقامت للطيور على هذا الكلام ضجة ففغرت المناقير وخفقت الأجنحة, واهتزت الرؤوس, وسرت موجة الطرب حتى إلى فرنسيس, فبارك الطيور وأطلقها فانطلقت....
  لما ساءت صحة فرنسيس وشعر بدنو أجله , استدعى إخوته و الأخت كلارا و أخواتها،  وفي نشوة سماوية راح يتغنى بلحن استوحاه من فرحه وغبطته وهو نشيد الخلائق أو نشيد الأخت الشمس: "أيها الرب الكلي السمو والقدرة والمحبة.. لك التسبيح والمجد والتكريم.. وكل تبريك.. بوركت يا إلهي عن أختنا و أمنا الأرض.. التي تغذينا وتسندنا وتنتج شتى الثمار.. والأزاهير والأعشاب ... مجدوا الرب وامدحوه .. اشكروه واخدموه... جميعكم بكل تواضع "..  إن أهم فقرة أضافها فرنسيس إلى نشيد الخلائق عندما دنا أجله فعلا ً، حيث طلب من الإخوة أن يغنوا له أنشودة المحبة بخاتمتها التالية: "نحمدك اللهم حمداً لأجل أخينا الموت, موت الجسم, الذي لا ينجو منه من الأحياء حي، الويل لمن يموت موت الخطيئة والهلاك, والطوبى لمن يتمم إرادتك المقدسة، إذ لا يستطيع الموت الآخر إليه سبيلاً " ..
 قال أحد الفرنسيسكانيين : "إنّ نشيد الخلائق هو عهد القديس فرنسيس, هو إشادته بالحياة على عتبة الموت, ومعانقته البشر في ساعة الفراق والرحيل, والغناء وسط التلوي من الألم"
  النهاية اقتربت ساعة دعوة الرب لفرنسيس ... فاستقبل الموت منشداً ... وقبل ذلك استغفر الجميع وباركهم ... وبارك مدينته العزيزة , وغاص في الصلاة : "أهلا بأخي الموت ... إنّ الرب يدعوني ".. كان ذلك مساء الثالث من شهر تشرين الأول 1226 حيث الآفاق الصافية , كأنها على أهبة لقبول أنفاس فرنسيس الأخيرة ! أجل هكذا برحت نفس فرنسيس هذه الدنيا.
 إنّ فقير أسيزي قد أنشد أصفى أفراح الأرض ورفع شأن ما بها من آلام وتضحية وموت.. إنه بكى طغيان البشر وظلمهم, وعلّمنا أن يحب بعضنا بعضاً, زهد في نفسه زهد الأبطال.

 رُسم قديساً في 16 حزيران 1228 أي بعد وفاته بأقل من سنتين . وصفه أحد الباباوات بأنه : "نسخة أمينة عن المسيح"

وأخيرًا: إن فرنسيس، الذي كانت حياته بأكملها صلاة متصلة وحوارا مع الله لا ينقطع، والذي انتدب لإصلاح الكنيسة المتصدعة, كان علمانياً, وظل علمانياً حتى قبيل وفاته حين سيم شماسا إنجيليا فحسب, كي يستطيع أن يتلو في الكنائس الإنجيل الذي كان به ولها . وإن في علمانيته مغزى عميق الدلالة, بعيد المرمى, إذ أثبت أن العيش في حضور الله ليس وقفا على النساك و المكرسين, بل هو شأن كل من رام أن يتجاوز ذاته, ويتجاوز الحياة الدنيوية الزائلة إلى حيث اللانهاية والخلود, كما أثبت أنّ الكنيسة الحقة هي جماعة المؤمنين كل المؤمنين الذين يعيشون الإنجيل بصدق.
وأختم بالتحية التي كان فرنسيس وجماعته يحيون بها بعضهم البعض وكل من يلتقون بهم في الطريق وهي التحية الشرقية القديمة "سلام الله عليكم"..



Leave a Reply.

    Archives

    October 2011

    Categories

    All
    أبانا الذى فى السموات
    القديس فرنسيس الأسيزى