Picture
"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى ٤/ ٤)

إنّ الأجيال الأولى لم تعرف الصوم كشريعة مفروضة بل مارسته من قبل العبادة ولأكثر من غاية: فكان يصوم الإنسان ليعطي لصلواته وزناً أوفر، ليكفـّر عن خطاياه، ليوفـّر من ماله وعيشه ما يعطي الفقراء، أو للاستعداد والتهيئة للعيد.  ويذكر آباء الكنيسة الذين عاشوا في هذه الحقبة أن بعض المسيحيين كانوا يصومون يومين أو ثلاثة دون انقطاع، والبعض الآخر يصوم أسبوعين ما عدا السبت والأحد. وفي أواخر الجيل الرابع كان المؤمنون يصومون ثلاثة أسابيع. ويختلف علماء الطقوس اليوم في تحديد هذه الثلاثة أسابيع، فبعضهم يقول هي الثلاثة الأخيرة من الصوم، والبعض الآخر يؤكد بأنها: الأسبوع الأول والرابع والسادس.

 فهذا التطور "العددي" بدأ رويداً رويداً منطلقاً من النواة الأقـدم وهي الثلاثية الإعدادية لعيد الفصح المجيد إلى أسبوع الآلام إلى ستة أو سبعة أسابيع وذلك توصلاً إلى عدد الأربعين يوماً. وهذا العدد هو امتداد لتقليد الكتاب المقدس: فموسى وإيليا ... والسيّد المسيح صاموا أربعين يوماً.

 كان هذا الزمن المقدس زمن تهيئة للموعوظين، والزمن الأنسب للتوبة العامة، وهو أيضاً، وبالأخص زمن تهيئة لعيد القيامة المجيدة، يدخلنا إلى عمق سرّ الفداء الذي تحقق بموت وقيامة المخلّص. ويضعنا أمام مواعيد معموديتنا إذ يعيد إلى أذهاننا واقع حالنا لنعيش مع الكنيسة المجاهدة حياة صراع ضدّ الشيطان، وهذا الصراع لن ينتهي إلاّ بمجيء المسيح الثاني.

 زمن الصوم، في أغلب الأحيان، لا يذكرّ المؤمنين إلا بشريعة الانقطاع عن الطعام والشراب وهذا واسطة. أما الغاية منه أن نصوم روحياّ متجردين عن كل ما هو من العالم وللعالم، لنعيش بالقلب والروح عيشاً يعدّنا لعيد القيامة المجيدة.

 هو زمن ننظر فيه ونصغي إلى المسيح متشبّهين به: فكما صام نصوم، ونصلي كما صلّى، وكما علّمنا أن نصلي. وهو أيضاً زمن قبول قوة المسيح، القوة التي قاوم بها تجربة الشيطان واحتمل بها الصلب والموت والتي قام بها منتصراً.

 ليس الصوم عبادة فردية إنما هو احتفال طقسي مهم، عمل المسيح الذي يتم ويواصل في جسده الذي هو الكنيسة.

 وإذا ما فسّحت الكنيسة من شريعة الصوم، فما ذلك إلا لكون الطبيعة البشرية في يومنا أصبحت اقل قوة على احتمال التقشف، ولكن عدم وجود شريعة عامة تفرض الصوم على الجميع، فذلك لا يعني انه اصبح غير مرغوب فيه، بل إن الكنيسة الأم لثقتها بأبنائها المؤمنين وبغيرتهم على التشبه بفاديهم ومخلصهم، وبوعيهم لقيمة هذه الأعمال التقوية الخلاصية، انهم ولا شك يفرضون كل حسب مقدرته ومزاجه بعض الامتناعات عن الطعام، أو عن الكماليات فيه متذكرين أن هناك كثيراً من المسيحيين وغير المسيحيين يعيشون دون القوت الضروري لقيام حياتهم.

 وبذلك يكون زمن الصوم المقدس، زمن اقتداء أكمل بالفادي، واشتراك في عمل خلاصنا، وزمن محبة أوفر للقريب وللذات ولله.





Leave a Reply.