الأب حنا كلداني

الصوم هو زمن تقشف لإسكات هتافات البدن وضجيجه فنتمكن من أن نسمع هتافات الروح ونتعمّق في كلمة الرب ونتبيّن مشيئته وإلاّ يكون صيامنا امتناعاً عن الطعام من دون اهتداءٍ داخلي. منذ بدايات وعي الإنسان بارتباطه بعالم الألوهة شعر بضرورة إخماد سطوة الشهوة والحواس عليه لأنها تبعده عن شفافية وصفاء عالم الروح، وقد ظهرت آثار هذا الصراع في سفر التكوين الذي يذكر أن الإنسان قد خلق من عنصرين: التراب والروح. أحدهما يناقض الآخر.

وقد عانى القديس بولس كما يعاني كل واحد فينا من هذا الصراع بين الروح والجسد: "ما أشقاني من إنسان. فمن لي بمن ينقذني من هذا الجسد الذي يصير بي إلى الموت" (روم 7: 24). يتّم في الصوم السعي لإخماد شهوة الجسد والحدّ من تسلّطه، نروضه على الخضوع للروح التي تقوده إلى الحياة كما يقول القديس بولس: "فالذين يحيون بحسب الجسد ينزعون إلى ما هو للجسد والذين يحيون بحسب الروح ينزعون إلى ما هو للروح فالجسد ينزع إلى الموت وأما الروح فينزع إلى الحياة والسلام" (روم 8: 5- 6). لنطرح هذه التساؤلات على أنفسنا :

ماذا يتغير فينا في الصوم ؟ هل هو زمن توفير أم زمن صلاة ومساعدة ومحبة ؟

إن كان زمن توفير فمن يصوم كبخيل يقضي كل حياته في الصّوم، ولكن بدون صلاة! هل هو مناسبة للرجيم ؟ للذين يعتنون بصحّتهم الفضل الأكبر في هذا المجال، ولكن بدون صلاة! هل هو زمن محبة؟ في هذه الحالة يتقدَّس في الصوم فمان: الفم الذي يصوم في الصّلاة محبة بالله وبالقريب والفم الذي يأكل لأن الآخر صام فيصلي شاكراً. هل الصوم هو زمن قداسة وعبور من روح هذا العالم إلى الله ؟ عملياً، هل تغلّبنا على ذواتنا وبدأنا نعيش المصالحة والمحبة والمغفرة؟ هل نعبر كل يوم من ذواتنا إلى الله؟ عمَّ أتخلّى لأتغيّر وأموت عن ذاتي لأعبر في المسيح إلى القيامة؟ وطوبى للصائم الذي يقوده صومه إلى العبور من صحراء الموت إلى عالم الروح إلى الله لان الصوم الحقيقي هو الموت عن هذا العالم والامتلاء بحياة الله في الصلاة.

الصوم في الكتاب المقدس

هل يطلب منا السيد المسيح أن نصوم؟

يعتبر الصوم أقدم وصيَّه عرفتها البشرية منذ الخليقة، فإنه عندما أوصى آدم وحوَّاء في الفردوس بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. كما جاء في (تك 2: 16-17) " من جميع شجر الجنَّةِ تأكل أكلا وأما شجرة معرفة الخير والشَّّر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت". وفي العهد القديم أمر الله موسى أن يصوم أربعين يوما ليتسلَّم الشريعة. ويقول داؤود النبي: "أذللتُ بالصومَ نفسي" (مز35: 13).

وبعدها صام إيليا النبي أربعين يوما وأربعين ليلة تمتَّعَ بعدها بمشاهدة الله على جبل حوريب. ويقول النبي أشعبا (58: 6-7) "أليس هذا الصوم الذي فضلته أن تكسر للجائع خبزك، وتدخل المطرودين بيتك، وإذا رأيت العريان تكسوه... حينئذ تدعو فيستجيب الرب وتستغيث فيقول هاأنذا".

ولا تنسى طابع الخفية فهو شيء مميز أثناء الصوم "فمتى صمت فادهن رأسك، واغسل وجهك، ولا تكن كالمرائي" (متى 6: 16-17).

وفي العهد الجديد صام المسيح أربعين يوما بالبرية كذلك رسله، وقد قال السيد في ذلك عندما سأله تلاميذ يوحنا: "لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟" ،  فأجابهم يسوع: "ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" (متى 9: 15) وقد صاموا فعلا.

وقيل عن بطرس الرسول "أنه كان صائما حتى جاع كثيرا واشتهى أن يأكل " (أع 10 :10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم. وهكذا كان إعلان الأمم في أثناء الصوم. أما يوحنا المعمدان فقد عاش حياته بالصوم والخلوة في البرية قبل أن يبدأ خدمته داعيا الناس إلى التوبة.

فالصوم دخول في رحاب الفصح المقدس، إنه الطريق الذي يوصلنا إلى القول: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات".

إن صوماً يخلو من روح التوبة لا معنىً له. فالصوم وسيلةٌ روحيَّه لتنقية القلب، وضبطٌ لنزواتنا، وتجاوز شجاع للأنا ، فترَةٌ ينسحق فيها القلب ويُستمع فيها إلى الله.

الصلاة

"إذا صليتم فلا تكونوا مثل المرائين يحبون الصلاة، قائمين في المجامع ومفارق الطرق ليشاهدهم الناس. الحق أقول لكم: هؤلاء أخذوا أجرهم، وأما أنت فإذا صلّيت، فادخل غرفتك وأغلق بابها وصلّي لأبيك الذي لا تراه عين وأبوك الذي في الخفية هو يكافئك.

هناك الصلاة الجماعية كصلاة الأحد، وهناك الصلاة الفرديَّه. حديثي الآن هو عن الصلاة الفرديَّه: كما الطفل الذي يتسلق إلى حضن والده أو والدته ويصغي إلى كلامهما وقصصهما، هكذا نتلهّف إلى سماع كلمتك يا الله ونتلهّف إلى أن نغرس كلمتك في قلوبنا. كما لكل شيء في الدنيا منهج كذلك الصلاة.

بداية يجب أن تكون وحيدا ولا يكون هنالك أيُّ عائق يحول دون استجابتك لحضور الله، مسترخيا... مسالما... جسدك منسجما مع روحك، واعيا بحضور الله... ثم ابدأ بقراءة فقرة من الكتاب المقدس ببطء وانتباه، الآن تصل إلى أجمل خطوه وهي فترة السكون. كن طفلا يناجي خالقه وأباه، خاطبه، حادثه، أخبره، بما تفكّر وتشعر، وأخبره ما الذي ستقدِّمه له، ما لذي تريدُهُ منهُ... غازلهُ وأخبرهُ عن محبتك لهُ كحبيب... كصديق... كأب وأخ.

أيها القارئ: الصلاة باستعمال الكتاب المقدس لا تعني قراءة كل الفقرات والإسفار، لكنها تعني أن تغرس في قلبك كل المعاني والقيم، كل كلمه من كلمات الكتاب المقدس، كما العماد يجعلك تولد ولادة جديدة مع المسيح.

هكذا يجب أن يحدث بعد الصلاة يجب أن تتخلَّى عن عاداتك السيئة، وتطلب المغفرة وحُب العطاء والخير للجميع.

إذن ابدأ مسيرة إيمانك بالصلاة ، وكلِّلها بالصوم والصدقة والله يكافئك كما يشاء

الصدقة

اذهب وبع كل ما تملك وتصدق به على الفقراء

في الموعظة على الجبل ربط يسوع الصوم والصلاة والصدقة بخيط واحد... وهو الخفيه....

على المسيحي أن يقوم بهذه الأعمال خفيةً...

إذا صام فليغسل وجهه... ويدهن شعره... ويبتسم.

وإذا صلَّى فليدخل حجرته، ويغلق بابه، ويصلِّي بعيدا عن الناس.

وإذا أعطى إحسانا لا يطبل ولا يزمِّر بل لا تعرف شمالك ما فعلت يمينه.

بهذا حوَّل السيد المسيح الصوم والصلاة والصدقة إلى فعل شخصي بين الإنسان وربُّه... لكي لا يحصل على الثناء من البشر، ولكن أباه هو الذي يكافئه.

فإن ابتسمت لحزين ........... فهذه صدقه.

وإن أطعمت جائعا............. فهذه صدقه.

وإن زرت سجينا............... فهذه صدقه.

وإن ساعدت مريضا........... فهذه صدقه.

فيا ليتك يا أخي تجعل أيام حياتك صدقةً دائمة..... تشارك بها الآخر بما قد أنعم الله عليك، ولكن بشرط واحد..... أن تكون المعطي المتهلّل.

روحانية الصوم

صام يسوع في البرية فانتقل من الحياة السرية إلى الحياة العلنية التبشيرية، كانت مرحلة تحول وتحضير لمرحلة جديدة بالعمل والقول، فالصوم هو ارتداد القلب في العمق، وتجديد الحياة، والاستعداد لفتح أبواب النفس مستقبلةً نعمة الله.

الله يدعونا جميعا فلنستجب لدعوته ولنتصالح مع أنفسنا ومع الله. فلا ندع الفرصة تفوتنا في هذا الزمن، زمن الارتداد والتوبة وتهيئة النفس للاغتسال بدم الحمل. يجوع الجسد... فتعلم معنى الحرمان.. فنُخضِِِع كبرياء النفس لتعيش ما يعيشه المحروم والفقير...

بذلك نصبح قلباً واحداً ينبض مع نبضات كل متألم ، ومحروم، يجوع الجسد... فتُغذّى النفس بالتواضع، وحُب العطاء، والمحبّةِ ، والرحمة، فنرى المسيح في كل متألم ومحروم... نكون بذلك قد تبدلّنا وتحولنا من العمق كي نكون مستعدين جسدا ونفسا للمشاركة بفصح المسيح ومجده.

الصوم هو التوبة

إن موضوع الصيام في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مرتبط بالتوبة. فالشعب القديم كان يتوب ويصوم ويصلي... طلباً لرحمة الله. فهذه الثلاثة مرتبطة ارتباطاً كاملاً. فالصوم هو جزء من حياة التوبة لذلك شددت الكنيسة منذ القدم في زمن الصيام الكبير على فكرة توبة الشعب... ومراجعة النفس للوصول إلى الفصح والقيامة مع السيد المسيح. الصيام إذا ليس طقوسا نتبعها... بتغيير عادات الطعام والشراب فقط بل هو صيام النفس قبل الجسد ومن ثم يتبعها حرمان الجسد من بعض الأطعمة... أو البقاء بدون طعام... وذلك بصرف النفس وقتا في الصلاة وهذا عمل نبيل... والصيام يعلمنا ضبط النفس عن الماديات الزائلة... ويجعلنا ننظر بعين الرضا إلى عطايا الله... وأن نتذكر الإنسان الفقير.

أقوال في الصوم والصلاة والصدقة

- يقول القديس باسيليويس:"الصوم مثل طير له جناحان الصلاة والرحمة لا يستطيع أن يطير ويحلق بدون جناحيه".

- إذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين... إما أنت إذا صمت فاغسل وجهك لكي لا تظهر صائما للناس بل لأبيك الذي في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك.(متى 16:6)

- إذا تصدقت فلا تعلم شمالك ما تفعل يمينك وأبوك الذي في الخفية يجازيك.

- يقول القديس يوحنا المعمدان: "من له ثوبان فليعط من لا ثوب له ومن عنده طعام فليفعل كذلك".

- صم لأنك خاطئ، وصم لئلا تُخطئ: ( القديس اغسطينوس ) .

- أخطر ما في الخطيئة انه انفصال عن الله، انفصال في القلب، والحب، والمشيئة، والعمل: ( البابا شنودة ) .

- إن الله يريد التوبة حينما تنتصر الروح على الجسد في فترة الصوم وتستطيع أن تخضع الجسد وتصلبه مع كافة أهوائه: ( البابا كيرلوس السادس ) .

- إن الدموع التي نذرفها على الخطايا أثمن من كل جواهر العالم: ( يوحنا ذهبي الفم ) .

- سأتوب الآن وليس غداً، هذه اللحظة في يدي وأما الغد فبيد الله: ( القديس فيوفان الناسك ) .

- إنَّ رفع اللحم عن المائدة لا يُعد صوماً حقاَّ، ولكن رفع الخطيئة من القلب هو الصوم الحق.

- القريب ليس من كان تربطك به صِلة الدم ، ولكن القريب هو كل من كان في عوز.

لماذا أربعون يوما ؟..

إن الرقم 40 له معاني كثيرة في الكتاب المقدس فالفيضان دام 40 يوما؛

بقى الشعب العبراني في الصحراء 40 سنة؛

يونان النبي أعطى مهلة 40 يوما لأهل نينوى لكي يعودوا عن الخطيئة؛

إيليا النبي يسير 40 يوما قبل بدء رسالته؛

يسوع يصوم 40 يوما .

فالرقم 40 دلالة روحيه وليس رقميه ، ففي المواقف السابقة جميعها كانت الحالة تتغير من السيئ إلى الحسن خلال 40 يوما .

لذلك جعلت الكنيسة مدة الزمن الأربعيني 40 يوما لكي يتحول بها الإنسان من حالة الإنسان الخاطئ إلى حالة النعمة.

"قد تأخرت بحبك يا الله" القديس اغسطينوس

تجربة شخصية

قد نقرأ هذه الكلمات وقد نسمعها كثيرا دون أن تعني لنا شيئا... كلمات جميلة نحب سماعها ونكررها للقديس أغسطينوس متذكرين ذلك القديس الذي أحب يسوع متأخرا بعد أن كان بعيدا عن حياته.

لكن لو عشنا هذه الكلمات لأدركنا المتعة الحقيقية عند ترديدها على لساننا، اللسان يتحرك والقلب ينطق نابضا معترفا بما كان يحمل من أثقال قد زالت وطرحت عنه. لقد كان يسوع بالنسبة لي وجود بلا موجوديه. أسيرُ معتمدا على ذاتي. أتصرف بضمير... لا أُسيء، معتقدا أن هذا يكفي كي أكمل دربي أملأ قلبي من هنا وهناك من ماديّات الحياة. فجأة وجدت نفسي في مفترق طرق لا أعرف أين أذهب وشاءت الظروف، لا أعرف كيف، أن يطرق باب قلبي، هو كان الطارق منذ زمن ولكن ربما هي الظروف التي جعلتني أسمع الطَّرَقات الآن وليس من قبل، حيثُ أنِّي أضعت الطريق، استجاب قلبي لهذه الطرقات، مستكشفا من أين ولماذا، وإذ بي أجد نفسي وقد كانت فارغة أسير وراء سراب، عطشى أتضور جوعا... تائهة... وإذا بابتسامة رقيقة ونظرات مليئة بالفرح والأمان تظهر من بعيد، نظرت بصمت... نظرات لا اعرف تفسيرها، اجتمع فيها الخوف والأمان... التردُّد والشوق. ابتسامةٌ مخنوقة تحاول أن تظهر للوجود، صلَّيت كثيرا... وطلبت من يسوع أن يعرفني على نفسه، أن يكشف لي ذاته... هو الذي أحبَّني منذ زمن بعيد... وبعدها... وبعدَ أن استجبت لطرقاته استجاب لي، وبدأ يظهر في حياتي كل يوم وبدأت أشعر بتلك الابتسامة تقترب من قلبي حتَّى دخلت إليه وبعدها ماذا أقول... فقط في هذه المرحلة اكتشفت المعنى الحقيقي الكبير لهذه الكلمات، فلم أعد بحاجه إلى شيء ، امتلأت منه، عرفت السلام وعرفت كم كُنت تائهة، عرفت المعنى الحقيقي للسعادة.

وفي النهاية أعتقد أن هذه الكلمات "لقد تأخرت بحبك يا يسوع " لا تقاس بالزمن وتعني العمر المتأخِّر، فمن يعيش الحياة مع يسوع يدرك كم ضاع منه دقائق وثواني، فالثانية بعيدا عن يسوع تساوي الَّزمن.

تجربة شخصية

لا بد من اللقاء

نتخبط كثيراً في طرقات الحياة، تأخذنا إلى متاهات، تجارب... فهذا المسيح معنا ونحن لا نراه، قابع فينا ولكننا غرباء عن أنفسنا... لا أعرف متى وكيف أخذتني الطريق إلى المسيح، فهو هنا بانتظاري، التقيت به، فرحة غامره تركت الماضي وكان المسيح حاضرا فيَّ وأنا فيه، تركت له مستقبلي بين يديه سلاما وطمأنينة، امتلأ قلبي ونفسي، غسلني من إثمي وألبسني ثوب التوبة.

صلاة

يا رب إذا صمت ساعدني أن: ألجم بالعفة العين واللسان وبالعفاف القلب والوجدان. وأطعم بصيامي أهل الجوع والدموع والحرمان حتى لا يكون صيامي منافقا، لا أجراً عند المسيح ولا ثواب ولا يكون صيامي بخلاً واقتصاداً.

تأمّل

في كل صباح كباقي الصباحات عندما تنثر الشمس جدائلها متباهية بيوم جديد، ويختبئ القمر وراء ستار نورها العظيم، وعندما تبدأ الحياة تدب في الحجر والبشر ويبدأ الكون دورة ليوم آخر، اشعر بشيء غريب لا استطيع تفسيره وأحس بذلك الدفء الذي غمرني كل يوم فأقف أمام عظمتك يا رب، وأتذكر من ولادة النهار ولادتك ومن شعور الدفء عظمة التضحية ومقدار الحب الذي زرعته فينا لنعطي دون حساب كما أعطيت ولتكون لدينا القدرة على تحمل عبء النهارات ومشاكل الحياة دون كلل أو ملل وأقوال في نفسي لتتمجد وليتمجد اسمك يا رب ولتكن ولادتك وموتك وقيامتك نوراً وطاقة تشحذ أنفسنا كل يوم.




Leave a Reply.