أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

أيها الشباب الأعزاء،

إن إنجيل تبريك أغصان النخل، الذي أصغينا إليه مجتمعين في ساحة القديس بطرس، يبدأ مع هذه العبارة: "كان يسوع يتقدم الجميع صاعدًا نحو أورشليم" (لو 19، 28). فور بدء ليتورجية هذا اليوم، تستبق الكنيسة جوابها على الإنجيل فتقول: "فلنتبع الرب". هذا ما يعبر بشكل واضح عن موضوع أحد الشعانين: اتباع المسيح. أن نكون مسيحيين يعني أن نعتبر أن درب يسوع المسيح هو الدرب القويم لكل البشر – الدرب الذي يقود إلى الهدف، إلى بشرية تحقق ذاتها بالملء وبشكل أصيل. بشكل خاص، أود أن أكرر لكل الشباب والشابات، في هذا اليوم العالمي للشبيبة الخامس والعشرين، أن الهوية المسيحية هي مسيرة، أو بالحري: حج، مسيرة مع يسوع المسيح. مسيرة نحو اتجاه قدمه الرب لنا وما زال يهدينا إليه.

ولكن ما هو هذا الاتجاه؟ كيف نجده؟ إن العبارة الإنجيلية تقدم لنا إشارتين في هذا الصدد. في المقال الأول، يبين لنا الإنجيل أننا أمام صعود. ولهذا الأمر معنى عملي جدًا. فأريحا، حيث بدأ يسوع القسم الأخير من حجه، تقوم على 250 مترًا تحت سطح البحر، بينما أورشليم – هدف مسيرته – تقوم على علو 740 – 780 مترًا فوق سطح البحر: وبالتالي الصعود يقارب الألف متر. ولكن هذه الطريق الخارجية هي فوق كل شيء صورة عن مسيرة الوجود الداخلية، التي تتحقق في اتباع يسوع: إنه صعود نحو قمة الكيان البشري الحقة. يستطيع الإنسان أن يختار طريقًا مريحًا متجنبًا كل الأتعاب. ويستطيع أيضًا أن ينحدر نحو ما هو تافه. يمكنه أن يغرق في حمأة الرياء وعدم الأمانة. يسوع يسير قدامنا، ويذهب نحو العلاء. يقودنا نحو ما هو عظيم، طاهر، يقودنا نحو الهواء النقي الذي يهب في العلاء: نحو الحياة بحسب الحقيقة؛ نحو الشجاعة التي لا تتضعضع بسبب الآراء السائدة؛ نحو الصبر الذي يتحمل الآخر ويسنده. يقودنا إلى الجهوزية نحو المتألمين، نحو المهجورين؛ نحو الأمانة التي تعرف أن تكون مع الآخر حتى عندما تصعب الأحوال. يقود نحو الاستعدادية لتقديم العون؛ نحو الطيبة التي لا تسمح لنكران الجميل أن يهدمها. يقودنا نحو الحب – يقودنا نحو الله.


"كان يسوع يسير أمام الجميع صاعدًا نحو أورشليم". إذا قرأنا هذه الكلمة من الإنجيل في إطار مسيرة يسوع برمتها – أي كدرب يستمر حتى انقضاء الدهر – يمكننا أن نكتشف في الإشارة إلى الهدف "أورشليم" دلالات مختلفة. بالطبع، يجب أن نفهم أولاً مدينة "أورشليم": إنها المدينة التي يقوم فيها الهيكل، الذي تدل فرادته على فرادة الله بالذات. هذا المكان يشير إلى أمرين: من ناحية، أن الله واحد في كل العالم، يفوق بشكل متسامٍ كل أماكننا وأزمنتنا؛ إنه ذلك الإله مالك كل الخليقة. إنه الإله الذي يبحث عنه البشر في أعمق أعماقهم، والذي يعرف عنه الجميع شيئًا بشكل أو بآخر. ولكن هذا الإله كشف عن اسمه. عرف عن نفسه لنا، وأطلق تاريخًا مع البشر: اختار إنسانًا – إبراهيم – كنقطة انطلاق لهذا التاريخ. الإله اللامتناهي هو في وقت عينه الإله القريب. هو الذي لا يمكن أن يحويه أي مبنى، ومع ذلك يريد أن يقيم في وسطنا، أن يكون معنا بكليته.

إذا كان يسوع يصعد إلى أورشليم مع إسرائيل الحاج، فهو يذهب إليها لكي يحتفل مع إسرائيل بالفصح: ذكرى تحرير إسرائيل – هو في الآن نفسه رجاء الحرية النهائية التي سيهبها الله. ويسوع يذهب نحو هذا العيد مدركًا أنه هو الحمل الذي سيتم فيه ما كتب في سفر الخروج الذي يتحدث عن حمل لا عيب فيه، ذكر، يذبح عند الغروب على أعين كل إسرائيل كـ "طقس أبدي" (راجع خر 12، 5 – 6 . 14).

وأخيرًا يعلم يسوع أن حياته ستذهب أبعد من ذلك: لن تنتهي على الصليب. يعرف أن طريقه ستشق الحجاب بين هذا العالم وعالم الله؛ يعرف أنه سيصعد إلى عرش الله مصالحًا الله والإنسان في جسده. يعرف أن جسده القائم سيصير الذبيحة الجديدة والهيكل الجديد؛ وأن أورشليم الجديدة المؤلفة من الملائكة والقديسين ستقوم حوله، أورشليم السماء التي هي حاضرة أيضًا على الأرض، لأنه فتح بموته الحدود القائمة بين السماء والأرض. إن دربه يقود أبعد من قمة جبل الهيكل حتى سمو الله بالذات: هذا هو الصعود العظيم الذي يدعونا جميعًا إلى القيام به. وهو يبقى دومًا معنا على الأرض وهو أيضًا دومًا عند الله. يقودنا في الأرض وما وراء الأرض.

وهكذا، تتجلى في سعة صعود المسيح أبعاد اتباعنا له – الهدف الذي يريدنا أن نبلغه: وصولاً إلى معالي الله، إلى الشركة مع الله، إلى الكينونة مع الله. هذه هي الغاية الحقة، والشركة معه هي السبيل إلى ذلك. الشركة مع المسيح هي أن نكون في مسيرة، في صعود دائم نحو السمو الحق لدعوتنا. المسير مع المسيح هو في آن مسيرة في "نحن" الذين يريدون أن يتبعوه. يدخلنا المسيح في هذه الجماعة، لأن المسيرة نحو الحياة الحقة، نحو الصيرورة أشخاصًا مطابقين لمثال ابن الله يسوع المسيح يفوق قوتنا. هذه المسيرة هي أيضًا أن نقبل أن نُحمل. نجدنا، إذا جاز التعبير، مربوطين بحبل بيسوع المسيح، ومعه نرتفع نحو سمو الله. يجذبنا يسوع ويسندنا في آن. يشكل جزءًا من اتباع المسيح تمسكنا بهذا الحبل واندماجنا به؛ أي أن نقبل أننا لا نستطيع أن ننجح لوحدنا. يؤلف التواضع جزءًا من هذه الخبرة ويتمثل بالدخول في "نحن" الكنيسة؛ التمسك بالحبل، مسؤولية الشركة – عدم تمزيق الحبل بالعناد أو بالغرور. الإيمان المتواضع مع الكنيسة، والاندماج في حبل الصعود نحو الله، هو شرط ضروري للاتباع. وأن نكون جزءًا من الحبل يعني ألا نتصرف كأسياد كلمة الله، وألا نتهافت وراء فكرة خاطئة عن التحرر. تواضع "الكيان مع" هو ضروري لهذا الصعود. ويشكل جزءًا منها أن نسمح للرب أن يأخذنا بيدنا من خلال الأسرار؛ وأن نسمح له أن يطهرنا وأن يجددنا، وأن نقبل أدب التقشف، حتى ولو كنا مرهقين.

وأخيرًا يجب علينا أن نقول أيضًا: الصليب هو جزء من الصعود نحو سمو يسوع المسيح، نحو سمو الله. كما يستحيل في هذا العالم أن نتوصل إلى نتائج كبيرة دون تخلٍ وتدريب قاسٍ، وكما أن فرح الاكتشاف الفكري الكبير وفرح القدرة التطبيقية الكبيرة يرتبط برصانة التدريب وبتعب التعلم، كذلك أيضًا الدرب نحو الحياة ونحو تحقيق بشريتنا يرتبط بالشركة مع ذاك الذي صعد نحو سمو الله من خلال الصليب. في المقام الأخير، الصليب هو التعبير عن معنى الحب: فقط من يخسر نفسه يستطيع أن يجدها.

فلنلخص: اتباع المسيح يتطلب كأول خطوة أن نوقظ توقنا الأصيل لكي نكون بشرًا وكذلك الاستيقاظ لأجل الله. يطلب من ثم أن ندخل في حبل الذين يصعدون، أي في شركة الكنيسة. في "نحن" الكنيسة ندخل في شركة مع "أنت" يسوع المسيح ونصل بالتالي إلى الدرب نحو الله. كما ويترتب علينا أن نصغي إلى كلمة يسوع المسيح وأن نعيشها: بإيمان ورجاء ومحبة. بهذا الشكل نكون في مسيرة نحو أورشليم النهائية، حيث نجد أنفسنا منذ الآن بشكل ما في شركة جميع قديسي الله.

إن حجنا في اتباع المسيح لا يذهب نحو مدينة أرضية، بل نحو مدينة الله الجديدة التي تنمي في وسط هذا العالم. ولكن الحج نحو أورشليم الأرضية، يمكن أن يكون مناسبًا لنا نحن المسيحيين كعنصر ملائم لهذا الحج الأكبر. أنا بالذات أعلق على حجي إلى الأراضي المقدسة السنة الماضية معانٍ ثلاثة.

أولاً، فكرت أنه يمكن أن يحدث لنا في تلك المناسبة ما يقوله القديس يوحنا في مطلع رسالته الأولى: ذاك الذي سمعناه، يمكننا بشكل ما أن نراه وأن نلمسه بأيدينا (راجع 1 يو 1، 1).  الإيمان بيسوع المسيح ليس اختراعًا أسطوريًا. بل يرتكز على وقائع تاريخية حدثت حقًا. وهذا التاريخ يمكننا، إذا جاز التعبير، أن نتأمله وأن نلمسه. من المؤثر أن نجد أنفسنا في الناصرة، في المكان الذي ظهر فيه الملاك لمريم ونقل لها مهمة أن تضحي أم المخلص. من المؤثر أن نكون في بيت لحم، حيث أراد الله أن يصير إنسانًا وطفلاً. من المؤثر أن نصعد نحو الجلجلة إلى المكان الذي مات فيه يسوع لأجلنا على الصليب. وأن نقوم أمام القبر الفارغ؛ أن نصلي حيث رقد جثمان الرب المقدس وحيث حدثت القيامة في اليوم الثالث. إن اتباع سبل يسوع الخارجية يجب أن يساعدنا على السير بفرح أكبر وبضمانة متجددة في السبيل الداخلية التي دلنا عليها: يسوع المسيح بالذات.

عندما نذهب حجاجًا إلى أورشليم، نذهب هناك – وهذا هو المعنى الثاني – كرسل سلام، مصلين لأجل السلام؛ بدعوة قوية إلى الجميع لكي يقوموا في ذلك المكان، الذي يحمل في اسمه كلمة "السلام"، بكل ما هو ممكن لكي يجعلوا منه موضع سلام.

ولذا فهذا الحج هو في الوقت عينه – وهذا المعنى الثالث – تشجيع للمسيحيين لكي يبقوا في وطنهم الأم ولكي يلتزموا بكثافة فيه من أجل السلام.

فلنعد مرة أخرى إلى ليتورجية أحد الشعانين. في الصلاة التي تتم بها مباركة أغصان النخل، نصلي لكي نتمكن، في الشركة مع المسيح، أن نحمل ثمارًا صالحة. انطلاقًا من تفسير خاطئ للقديس بولس، تفشى بشكل متكرر في التاريخ وحتى يومنا الرأي بأن الأعمال الصالحة ليست جزءًا من الهوية المسيحية، وهي بالتالي غير ضرورية لخلاص الإنسان. ولكن إذا كان بولس يقول أن الأعمال لا تستطيع أن تبرر الإنسان، فهذا لا يعارض أهمية الأعمال المستقيمة؛ وإذا كان يتحدث عن نهاية الشريعة، فهو لا يقصد أن يقول أن الوصايا العشر قد تم تجاوزها وأنها باتت بلا أهمية. ليس هناك حاجة للتفكير بسعة المسألة التي كانت تهم الرسول. من المهم أن نبين كيف أن كلمة "شريعة" لا تعني الوصايا العشر، بل أسلوب العيش المعقد الذي كان يجب أن يحمي إسرائيل من تجارب الوثنية. أما الآن فقد حمل يسوع الله إلى الوثنيين. ولذا لا يفرض عليهم هذا النوع من التمييز، بل تُعطى لهم شريعة هي المسيح وحده. وهذا يعني حب الله وحب القريب وما يرتبط بذلك. الوصايا ترتبط بهذا الحب ويتم فهمها بشكل جديد وأعمق إنطلاقًا من المسيح. تلك الوصايا ليست إلا القواعد الأساسية للحب الحقيقي: أولاً وكمبدأ أساسي عبادة الله، أولية الله، التي تعبر عنها الوصايا الثلاث الأولى. فهي تقول لنا: من دون الله ما من شيء يتم بالشكل المناسب. من هو هذا الإله وكيف هو، نستطيع أن نفهمه إنطلاقًا من شخص يسوع المسيح. ثم يلي ذلك قداسة العائلة (الوصية الرابعة)، قداسة الحياة (الوصية الخامسة)، تنظيم الزواج (الوصية السادسة)، تنظيم المجتمع (الوصية السابعة) وأخيرًا حصانة الحقيقة (الوصية الثامنة). كل هذه الأمور هي كبيرة الآنية وحتى بحسب فهم القديس بولس – إذا ما قرأنا رسائله بشكل متكامل. "احملوا ثمر الأعمال الصالحة": في مطلع الأسبوع المقدس فلنصل إلى الرب لكي يهبنا جميعًا ودومًا هذا الثمر.

في ختام إنجيل تبريك أغصان النخيل نسمع الهتاف الذي يستعمله الحجاج في ترحيبهم بيسوع عند أبواب أورشليم. إنها كلمة المزمور 118 (117)، التي كان الكهنة في الأصل يعلنونها على الحجاج من المدينة المقدسة، والتي كانت قد أضحت في ذلك الحين تعبيرًا عن الرجاء المسيحاني: "مبارك الآتي باسم الرب" (مز 118 [117]، 26؛ لو 19، 38). يرى الحجاج في يسوع، المنتظر، الآتي باسم الرب، بل بحسب إنجيل لوقا، يضيفون كلمة أخرى: "مبارك الملك الآتي باسم الرب". ويتباعون الهتاف الذي يذكر برسالة الملائكة في الميلاد، مع تبديل يجعلنا نفكر. تحدثت الملائكة عن مجد الله في أعالي السماوات والسلام على الأرض للناس الذين فيهم مسرة الله. أما الحجاج عند مدخل أورشليم فيقولون: "سلام في السماء ومجد في أعالي السماوات!". يعرفون جيدًا أن في الأرض لا يوجد سلام. ويعرفون أن موضع السلام هو السماء. يعرفون أن جوهر السماوات هو أن تكون موضع سلام. ولذا فهذا الإعلان هو تعبير عن ألم عميق، وهو أيضًا صلاة رجاء: إن الآتي باسم الرب يحمل على الأرض ما في السماء. تضحي ملوكيته ملوكية الله، حضور السماء على الأرض.

تغني الكنيسة قبل تكريس القربان المقدس كلمة المزمور الذي استعمله الجمع في ترحيبهم بالرب لدى دخوله المدينة المقدسة: تحيي يسوع مثل الملك الآتي من لدن الله، باسم الله في وسطنا. اليوم أيضًا هذه التحية الفرحة هي دومًا تضرع ورجاء. فلنصل إلى الرب لكي يحمل السماء إلينا: يحمل مجد الله وسلام البشر. نقصد هذا السلام في روح طلبة "الأبانا": "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض!". نعرف أن السماء هي سماء، هي موضع مجد وسلام لأن إرادة الله تسود فيها بالكامل. ونعرف أن الأرض ليست سماء ما لم تتحقق فيها إرادة الله. فلنحيي إذًا يسوع الآتي من السماء ولنطلب إليه أن يساعدنا لكي نعرف إرادة الله ونحققها. فلتدخل ملوكية الله في هذا العالم لكي يمتلئ هذا الأخير من تألق السلام. آمين.