مقالة للمطران بولس يازجي

مبارك الآتي باسم الرب (خلصنا) هوشعنا

هذه هي الصرخة التي ستملأ أجواء هذا اليوم والتي سمعناها في الإنجيل.

هناك عبارة أخرى، من أجمل كلمات بولس الرسول، تتذكرها الكنيسة في هذا العيد، وهي:

"افرحوا يا أخوة وأيضاً أقول افرحوا… وإله السّلام يكون معكم".

هذا هو الملك الآتي، إنّه ملك إسرائيل، ملك السّلام. هوذا الذي على رتبة "ملكيصادق" أي ملك البرّ.    

الإنسان بطبيعته ومنذ فجر التاريخ يسعى للسلام. ويرى في تحقيق ذلك سعادته وهناءه. لكنّه غالباً ما يُخطئ في اختيار الدروب التي يظنّها ستوصله إليه.

لتحقيق السّلام طالما سقط الإنسان في الحروب. من أجل السّلام استخدم كثيرون الاستبداد، في طلب السّلام تهافت آخرون على جمع المال ظانّين أنَّهم به سيجدون الاستقرار ويحقّقون السّلام.

في سبيل السّلام لم يوفِّر البعضُ على أنفسهم استخدام أيّة وسيلة، مهما كانت، ولم يترددوا في سلوك أيّ درب خاطئة.

إنَّ قراءة واعية للتاريخ البشريّ توضّح، من جهة أولى، سعي الإنسان الحميم إلى السّلام، ولكنّها تظهر أيضاً فشل أغلب تلك الدروب التي سلكها، وأغلب الحلول التي طرحها.

اليهود أنفسُهم، الذين سمعنا هتافهم اليوم في النصّ الإنجيليّ:

"خلصنا، مباركٌ الآتي باسم الرب"، عاشوا تاريخهم الطويل المعذّب وهم ساعون في عطشٍ إلى السّلام. ابتغوه،

لكن أحلامهم رأته من خلال الاستقلال، ولم يكن ذلك يعني ما هو أقلّ من الاستبداد أحياناً عديدة، وتوقعوه في التحرير ولو كان ذلك يبرّر مرّات استعباد الآخرين.

طلبوا السّلام في أحلام المجد والسلطان، في فلسفة السيطرة، ورغبات الهيمنة، ومن منظار الحكم، غير متذكرين نبوءة زخريا (9، 9)

"افرحي يا ابنة صهيون لأنّه هوذا ملككِ يأتي إليكِ راكباً على جحش ابن أتان".



بعد ثلاث سنين من التعليم والأعمال، أشرف الربّ يسوع على أبواب أورشليم في جوٍّ من التحدّي القاسي، ودخلها دخول الفاتح بعد إقامة لعازر.

لقد سبى قلوب الناس بسيطرته حتّى على الموت. ورأى الشعب به محطَّ أحلامه، فدخل أورشليم كملكٍ لإسرائيل. لكنّه دخلها في وجه من الغرابة، على ابن أتان.

إنَّ يسوع بدخوله الظافر هذا، وبهذا الأسلوب، يريد أن يُعلن عن طبيعة ملكوته. إنّه ملكوت البرّ والسّلام الحقيقيّ. وهذا ما يشدّد عليه نصّ الرسالة اليوم:

"ما هو من طهارة، من عفاف، من عدلٍ، من كلّ صفةٍ محبَّبةٍ، من حُسنِ صيتٍ، إن تكن فضيلةٌ وإن يكن مدحٌ ففي هذا افتكروا… وإله السّلام يكون معكم".

هذه هي أسلحة السّلام الذي نسعى إلى تحقيقه. إنَّ الربّ يسوع الفاتح اليوم، يؤسّس هذه المملكة. هذه هي دروب السّلام، وهذا ما يعنيه زيّاح الشعانين.

هذا الزياح هو "مسيرة" المسيحيّين السّلاميّة يرفعون فيها شعاراتهم، وأهدافهم، وأسلحتهم، ألا وهي سعف النخيل، والتي يفسّرها التقليد كلّه على أنّها رموز الفضائل، كما تقول الأناشيد المباركة.

هكذا فتح الربّ يسوع أورشليم، وبذلك افتتح هذا الملكوت السّلاميّ تاركاً لنا، نحن المسيحيّين، إكماله وتحقيقه على وجه الأرض كلّها. المسيح دخل ملكاً على أورشليم مرّة لنملّكه نحن على العالم بأسره أبداً.

   

الكنيسة وحدها بالبرّ الذي تعلِّمه، وتحياه، وتبشِّر به، هي مركز السّلام على الأرض بين الشعوب، لا بل علامته وقوته.

   

ملكوت هذا الملك هو الكنيسة، التي تبني البرّ وتهدم أركان الشّر؛ التي تربط الناس بالمحبّة لاغيةً الفوارق وكل تسلّط في أيّة سلطة.

إنّها تجمع فعلاً في مقابل كثير من التجمعات التي تجمع لتفرِّق. الكنيسة تلغي الفروقات، وكل تمييز أو عنصريّة فتصالح البشر، وتجعلهم يتبارون بالبرّ وليس بحسب تلك المميّزات.

   

الزيّاح بالشعانين "مسيرة" هذا هو فحواها، نعلنه لنا وللآخرين، أنّنا نؤسّس ملكوتاً، القوّة فيه هي المحبّة، والرفعة هي التواضع، والمجد هو الخدمة، والسيّد هو الآتي على ابن الأتان.

هذه هي مجازفة الإيمان، والإيمان دون مجازفة باطل. إيماننا أنّنا كسيّدنا سنبقى مؤمنين، أنّ الظلم ضعيف لأنّه يعْبُر، لكنَّ التضحية ولو بدأت بالموت هي حبّة ستقوم إلى سنابل ظفر.

كلّ ما هو ضعيف في نظر الناس هو بإيماننا أقوى سلاح. كثيرون تسلَّطوا على الناس بالسّلطان وفتحوا الدنيا بالعنفوان، كلّهم كانوا وحسب، وحده ربّنا كان، ولأنّه حارب بالحبّ، كان وسيأتي.

يضطهدوننا بالظلم نقابل بالغفران، يتسلّطون بالمجد نردّ بالتواضع، لأنَّ إيماننا يعرف أنّ الظلم يموت بينما الغفران يقوم، ذلك واهٍ وهذا الأخير حيّ لا يموت. إنّنا، كما تقول الترانيم، نرفع صليبك يا ربّ ونقول:

أوصنا في الأعالي مباركٌ ملك إسرائيل الآتي باسم الربّ.