[مقتطفات من إلهامات الروح للآباء عن دخول المسيح أورشليم. اقرأ مت 21: 1-11، مع ملاحظة أن اقتباسات الآباء من العهد القديم هي حسب الترجمة السبعينية]. المعنى السرِّي لدخول الرب أورشليم:

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

عندما أرسل الرب تلميذيه ليُحضِرا الأتان والجحش، أخبرهما مُسبقاً أنه لن يعترضهما أحد. لقد حثَّ الرب (سرّاً) أُناساً لم يعرفوه قط ولم يكن قد رآهم أن يُسلِّموا ما يمتلكونه بدون أية كلمة، وذلك بواسطة تلميذيه، في حين أن معظم اليهود رفضوا أن يطيعوه عندما صنع العجائب والمعجزات أمامهم.

لا تنظروا إلى هذا الأمر كأنه قليل الأهمية، لأنه مَن هو الذي استحثهم على عدم معارضة التلاميذ عندما أخذوا منهم ما يملكون، وهم فقراء وفلاحون، بل حتى ولا أجابوا على ردِّ التلميذَين بأن الرب محتاجٌ إليهما إلاَّ بالصمت والخضوع، ولا سيما وهم لم يروا الرب نفسه، بل تلميذيه فحسب؟ وهكذا يُعلِّمنا الرب أنه كان يمكنه أن يكبح جماح اليهود، ولو حتى ضد إرادتهم، عندما كانوا مزمعين أن يضعوا أيديهم عليه، وأن يبتليهم بالعمى أو الخرس، ولكنه لم يشأ ذلك. ومن هذا يُعلِّم أيضاً تلاميذه أنه مهما طلب منهم يعطوه ولو حياتهم نفسها، لأنه إن كان الذين لم يعرفوه أطاعوه، فكم بالحري أتباعه!

إن الرب بركوبه على جحش يُتمِّم نبوَّتين:


الأولى نبوَّة زكريا: «هوذا ملكُكِ يأتي إليكِ... وهو وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زك 9: 9)؛


والثانية التي أخبر فيها أنبياءه بدعوة الأمم غير الطاهرين، وأنهم سيأتون إليه ويتبعونه، وأنه سيجد راحته فيهم (لأن الحمار كان من الحيوانات غير الطاهرة حسب الناموس، ولذلك فهو هنا يرمز إلى الأمم). وهكذا فإن تحقيق إحدى النبوَّات يُفسِح المجال لتحقيق الأخرى.

ويشير الجحش إلى الشعب الجديد الذي كان قبلاً نجساً، ولكنه صار طاهراً بمجرد أن ارتاح الرب يسوع عليه. وكما أن التلاميذ هم الذين حلُّوا الدابتين، هكذا بواسطة التلاميذ أيضاً دُعينا نحن (الأمم) وهم (اليهود) إلى الإيمان، وبواسطة الرسل جيء بنا كلينا إلى الرب يسوع. وبسبب أن مجد دعوتنا قد جعل اليهود يَغارون،

هكذا وُجدت الأتان تابعة للجحش، لأنه بعد أن أُجلِسَ المسيح على قلوب الأُمم سيأتي اليهود أيضاً مدفوعين بالغيرة، وهو ما قاله بولس الرسول: «إن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم، وهكذا سيخلُص جميع إسرائيل» (رو 11: 26،25). وواضح أن هذه نبوَّة، وإلاَّ لما كان زكريا النبي اهتم بأن يذكر «أتان وجحش ابن أتان».

ويُعطينا الرب هنا أيضاً مثالاً حكيماً لحياتنا اليومية، فبالإضافة إلى الأمثلة العديدة لفقره وعوزه، يُظهِر لنا أنه لا داعي لأن يمتطي جواداً، بل يكفيه حمارٌ. فنحن في أي مكان ينبغي أن نقنع بما يكفي لاحتياجنا.

لم يستقل الرب مركبة كالملوك الآخرين، ولا طلب تعظيماً من الناس، ولا أن يلتفَّ حوله الضباط والحرَّاس، وفي هذا أيضاً يُظهِر الوداعة. وهنا اسألوا اليهود: أيُّ ملكٍ حدث قط أن دخل أورشليم راكباً على أتان؟ فلا يمكنهم أن يُخبِروا عن أحدٍ فعل ذلك سوى الرب!

ابتهجي جداً، واهتفي، هوذا ملكُكِ:

+ في قولٍ جميل يقول العلاَّمة أوريجانوس:

تقول نبوَّة زكريا النبي الجديرة بالاعتبار: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي بالفرح يا بنت أورشليم. هوذا ملككِ يأتي إليكِ، وهو العادل والمُخلِّص، وديع وراكب على أتان وجحش ابن أتان» (زك 9: 9 حسب الترجمة السبعينية).

أتريد أن تتعلَّم من النبي لماذا ينبغي على ابنة صهيون أن تبتهج لأجل الأمور التي أُنبئت بها؟ اسمعه يقول: «لأنه سيقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، وقوس الحرب ستُقطع، وسيتكلَّم بـالسلام للأُمم وسلطانه مـن البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. وأنتِ أيضاً فإني بـدم عهدكِ قد أَطلقتُ أسراكِ من الجب الذي ليس فيه ماء. ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء» (زك 9: 10-12).

ولكن لماذا ينبغي أن تبتهج ابنة صهيون جداً وتهتف بنت أورشليم فرحاً في حين أن الرب بكى على أورشليم قائلاً: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردتُ أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا» (لو 13: 34)!! (وهو إنجيل جمعة ختام الصوم) .

فربما يقصد ببنات أورشليم، أولئك السمائيين الذين ذكرهم الرسول بولس: «قد أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السمائية، وإلى صحبة ربوات لا تُحصَى من الملائكة» (عب 12: 22 - ترجمة حديثة).

لأجل هذا السبب، ولأجل الأحداث الأخرى التي صاحبت ذلك، يليق بابنة صهيون أن تبتهج جداً وأن تهتف بنت أورشليم فرحاً، لأن ملكها أتى إليها وهو عادلٌ ومنقذٌ للمزمعين أن يحصلوا على الخلاص.

لقد جاء إلى أورشليم وديعاً، ومُحطِّماً مركبات أفرايم التي تشبَّه بمركبات فرعون التي ألقاها مع جيشها في البحر (خر 15: 4). لقد قطع الفرس وكسر قوس الحرب من أورشليم لكي يعدَّ سلاماً لإسرائيل مستعيداً غنم رعيته التي فُقدت، مُرجِعاً إليه أولاد أورشليم الذين طُرحوا خارجاً. وحينئذ عندما تأتي أعداد هائلة من الأُمم أيضاً إلى الإيمان ويحصلون على الخلاص والسلام، فإن المخلِّص سيملك «من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض».

وماذا عن ثياب التلاميذ والشعب، وأغصان الشجر؟

+ يقول القديس جيروم:

كان الجحش والأتان عريانين قبل مجيء المخلِّص، فقاسيا من البرد، واهتم الكثيرون بامتلاكهما، ولكنهما بعد أن تغطَّيا بثياب الرسولين وصارا أكثر جاذبية صار لهما الرب نفسه راكباً عليهما.

وثياب الرسل تشير إلى تعاليمهم عن الفضائل الإنجيلية التي إن لم ترتديها النفس وتتزيَّن بها لا يمكنها أن تؤهَّل لأن يجلس الرب يسوع فيها.

+ ويقول القديس ذهبي الفم:

لقد جلس الرب على الجحش بعد أن غطَّاه الرسولان بثيابهما، لأنهما بعد أن وجدا الجحش سلَّما كـل شيء كما قال الرسول: «أما أنـا فبكل سرور أُنفِق وأُنفَق لأجل نفوسكم» (2كو 12: 15).

ولكن لاحِظ أن اليهود رغم كل العجائب التي صنعها الرب، لما رأوا الجموع محتشدة اندهشوا: «ولما دخلوا أورشليم، ارتجَّت المدينة كلها قائلة: مَن هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (مت 21: 11،10). ولما سمعوا هتاف الشعب «قالوا له: يا معلم، انتهر تلاميذك. فأجاب وقال لهم: أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء، فالحجارة تصرخ» (لو 19: 40،39).

وبالإضافة إلى تحقيقه للنبوَّات، أراد بذلك أن يُعزِّي تلاميذه الذين سيحزنون بسبب موته، موضِّحاً لهم أنه سيتألم بحرية إرادته.

ولنفعل نحن أيضاً تلك الأمور نفسها. فلنصرخ بالتسبيح، ولنُعطِ ثيابنا للذين يحملون الرب. لأننا بماذا سنوجد مستحقين عندما يُغطِّي آخرون الجحش الذي جلس عليه الرب بثيابهم وآخرون يفرشون ثيابهم تحت قدميه، بينما نحن نتركه عرياناً في أولئك الذين يحتاجون إلى القليل من ثيابنا؟ إنهم يسيرون قدَّامه ويتبعونه من ورائه، بينما نحن إذا هو اقترب منَّا نصدُّه عنا. أيها الأحباء، دعونا نفتح عيوننا ونكون يقظين.

إنني خجل أن أتكلَّم عن الصدقة إذ تكلَّمتُ عنها كثيراً، ولكن كلامي لم يثمر كثيراً. إنني أرى أنكم تزرعون بالشح، لذلك أخاف أنكم لن تحصدوا إلاَّ بالشح أيضاً!

ولكي تعرفوا عدم إنسانية بعض الأغنياء، في حين أن دخل الكنيسة لا يساوي إلاَّ دخل واحد منهم فقط. فكِّروا كم من الأرامل وكم من العذارى تعولهم الكنيسة، لقد وصل عددهم الآن إلى ثلاثة آلاف (هذا حدث أيام ذهبي الفم في مدينة واحدة، أفلا يُخجلنا هذا الكلام الآن)! هذا بالإضافة إلى المحتاجين الذين يطرقون أبوابنا يومياً، والذين في السجون، والمرضى في المستشفيات، والغرباء، والمعوَّقين بالعاهات، وأيضاً الذين يخدمون المذبح. فلو وُجد عشرة أغنياء فقط مستعدون ليعطوا ما في وسعهم لما وُجد فقير واحد. إن مدينتنا هذه تستطيع بنعمة الله أن تعول فقراء عشر مدن!

لاحِظ مقدار ما تصرفه أسرة واحدة في عيد واحد أو وليمة واحدة دون أن تعبأ بمقدار ما تصرفه، فلو أن واحداً من الأغنياء فعل هذا في خدمة الفقراء لكان في لحظات قليلة يمسك السماء بيديه! إنني لا أسألكم أن تعطوا من رؤوس أموالكم بل أن تُشرِكوا الفقراء في أرباحكم. فكونوا وكلاء صالحين فيما أعطاكم الله.

وإذا كنتم تغطُّون مثلاً احتياجات الرجال الذين يُحاربون عنكم ضد البرابرة، فيوجد هنا أيضاً جيش من الفقراء يخوض حرباً نيابة عنكم، لأنكم عندما تعطونهم يربحون لكم بصلواتهم نعمة من الله، وباسترضائهم له يصدُّون عنكم، ليس فقط اعتداء البرابرة، بل الشياطين!!

فدعونا نوظِّف أموالنا في هذا المشروع الذي يستحق ذلك لكي نأخذ الربح معنا عندما نرحل من هذه الحياة، كما نُبقي منه لأولادنا. وبذلك سنبلغ إلى الأمور العتيدة بنعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح.

نشيد دخول الملك:

+ يقول القديس جيروم:

مزمور 118 الذي كُتب خصيصاً لأجل مجيء المخلِّص، نقرأ فيه: «الحجر الذي رذله البنَّاؤون قد صار رأساً للزاوية، من قِبَل الرب كان هـذا وهو عجيب في أعيننا. هذا هـو اليوم الذي صنعه الرب فلنفرح ولنبتهج فيه. يا رب خلِّص الآن، يا رب سهِّل سبلنا. مبارك الآتي باسم الرب» (مز 118: 22-26).

وفي اللغة العبرية نجد كلمة: «يا رب خلِّص» هكذا: ”أنَّا أدوناي أو سيانَّا“ التي فسرتها ترجمة سيماخوس (وأخذت عنها طبعة King James الإنجليزية) هكذا: «أتوسل إليك يا رب خلِّصنا، أتوسل إليك». وهذا يعني أن مجيء المسيح هو خلاص للعالم: «لم آتِ لأدين العالم بل لأُخلِّص العالم» (يو 12: 47)، «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابـن مخلِّصاً للعالم» (1يو 4: 14).

+ ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

«الذين تقدَّموا» يشيرون إلى الذين سبقوا أن هلَّلوا للمسيح الذي سيأتي (في العهد القديم)، و«الذين تبعوا» يُسبِّحون مهلِّلين لمجيء المسيح الذي تمَّ الآن




Leave a Reply.