"هوشعنا مبارَك الآتي باسم الربّ ملك إسرائيل".

هذا ما هتف به أهل أوشليم لمّا دخل الربّ يسوع إلى مدينته على جحش ابن أتان. هذا كان نداءً تقليدياً في اليوم السابع من عيد المظال يرافقه هزّ الأغصان. وهو مستمدد من المزمور 117 الآية 25.


والأصل العبري يترجمونه هكذا: "آه يا ربّ ليتك تخلّص". النداء موجَّه، أساساً، للملك.

وبما أنّ اسم مسيح الربّ هو يسوع أو يشوع، لهذا كانت الجموع تردِّد، من حيث لا تدري، اسم يسوع المسيح. كانت تناديه. وحده،

في الحقيقة، كان قادراً على أن يلبّي النداء. وقد جاء ليُعين. فـ "مبارَك الآتي باسم الربّ ملك إسرائيل". هم أعلنوه، ربما عن غير وعي منهم، ملك إسرائيل. قرنوه بالنبوءة. تنبّأوا. صحيح أنّ أكثر الذين هتفوا:


"هوشعنا، مبارَك الآتي باسم الربّ، ملك إسرائيل"، هتفوا بعد أيام:

"اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا"، ولكنْ ما قيل فقد قيل ولو صدر عن قوم لا يؤمنون أو لم يثبتوا على الأمانة.




والربّ يسوع دخل على جحش ابن أتان. دخل كما لا يدخل ملوك الأرض. دخل كملك من نوع جديد. دخل بالوداعة لا بالعنف. جاء ليسترد مُلكه لا بالقوّة بل بالمحبّة. جاء لا لينكِّل بأحد بل ليموت عن الجميع. فكان عرشه الصليب. ملوك الأرض يدخلون المدن على الأحصنة.

الفَرس علامة الحرب والعنف والقتل والاستكبار. ملوك الأرض يدخلون إلى المدن المحتلَّة متعالين مستكبرين متبخترين. أمّا هذا المَلك الجديد فدخل بالمحبّة وديعاً متواضعاً. دخل دخولاً إلهياً.

وحده الله المحبّة قادر على أن يكون وديعاً متواضع القلب وإلى المنتهى. الناس في العالم ربما يتمسكنون، يظهرون بثياب الحملان وهم ذئاب. أمّا يسوع فقد أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد وضيع.




قبل أن يدخل الربّ يسوع إلى أورشليم، توقّف في بيت عنيا. بيت عنيا تبعد عن أورشليم حوالي ثلاثة كيلومترات، إلى الشرق. الربّ يسوع سبق له أن تردَّد على بيت عنيا وكان لديه أحبّاء فيها.


البيت الذي اصطفاه، بخاصة، كان بيت لعازر ومريم ومرتا. هناك أحبّ أن يرتاح ويريح. لعازر، كما أقمنا الخدمة بالأمس، رقد في بيت عنيا. وقد بقي في القبر أربعة أيام مع أنّ مريم ومرتا أرسلتا في طلب يسوع ولعازر، بعدُ، مريض. قالتا: "الذي تحبّه مريض". لكن يسوع تأخّر عن قصد. وقد أعلن عن مرض لعازر أنّه ليس للموت بل لمجد الله.


ودخل الربّ يسوع إلى بيت عنيا.

للأسماء، عادة، دلالتها وأهمّيتها في الإنباء بعمل الله. لفظة "بيت عنيا" ربما كانت لها معان عديدة. لكن أحد هذه المعاني هو "بيت الفقير". من جهة أخرى، لعازر الإسم معناه "الله يُعين" أو "معونتي من عند الربّ". لذلك لعازر، في الموقع الذي كان فيه، أي في بيت عنيا، كان يشير، بمعنى، إلى واقع البشريّة بأكملها.


فالذي كان بحاجة إلى عون الله وهو مقيم في بيت الفقير كان الإنسان / لعازر الذي طُرد من الفردوس وأُخرج إلى هذا العالم. هذا العالم هو بمثابة بيت عنيا. آدم يُقيم في مكان الشقاء. حين كان آدم في الفردوس كان ممتلئاً من النِعَم الإلهية.


فلما خرج من هناك كان شبه عريان. تعرّى من نِعَم الله، من مجد الله، من نور الله. جُرِّد من رتبته فوُجد فقيراً. من هنا القول المعبِّر للمزمور:


"فقير أنا وفي الشقاء منذ حداثتي". مَن الذي عرّاني وأفقرني؟ جهلي وغبائي أولاً، ثمّ الشرّير الذي قال عنه المزمور:


"لأنّ العدو قد اضطهد نفسي وأذلّ في الأرض حياتي وأجلسني في الظلمة مثل الموتى منذ القِدَم".

خطيئتنا هي التي مكّنت الشرّير من تجريدنا من كل غنى إلهي. فالإنسان أقام في هذا العالم كما أقام لعازر في بيت عنيا.

وبقي الإنسان يصرخ على مدى الأيام: هوشعنا. يا ربّ خلّصني. آه يا ربّ ليتك تنجّي! "اللهمّ بادر إلى معونتي. يا ربّ أسرع إلى إغاثتي". استمرّت البشريّة تصرخ وتئن بكلام ومن دون كلام. بالكلام والصمت. أ

خيراً حلّ بيننا المنادَى. "والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا". قبل أن يدخل يسوع إلى أورشليم دخل إلى بيت عنيا.


أراد أن يعطينا هناك عربون قيامته المجيدة. لذا ترك لعازر يموت، صورةً عن نفسه، لكنّه أقامه بعدما كان قد أنتَن.


هذا كان العربون، عربون قيامته هو، حتى إذا ما عاينّا الربّ يسوع معلَّقاً على الصليب لا تخور عزائمنا ولا يخيب رجاؤنا. رغم ذلك لم نفهم. الله أعظم من عقولنا ومن قلوبنا.


لذا لا فهم إلاّ بروح الله. كل ما جرى قبل الصليب، بما في ذلك إقامة لعازر، كان برسم الفهم فيما بعد.




ثمّ بعد قيامة لعازر وقبل دخول ربّنا إلى أورشليم بستة أيام، أتى السيّد، من جديد، إلى بيت عنيا. هناك تناول طعام العشاء في بيت مرتا ومريم. وكان لعازر أحد المتّكئين معه.


مريم التي اعتادت الجلوس عند قدمي المعلم لتسمع كلامه لم تكن ترى إلاّه. كانت كلُّها شوقاً إليه. كل الحياة في عينيها كانت المسيح. أحبّته. ومَن يحبّ كثيراً بمحبّة الله يُبْدِع. يستحيل نبيّاً.


يأتي بما لا طاقة للإنسان العادي على فهمه. أخذت مريم رطل طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها. مَن يحبّ يتذلّل إرادياً. الناس في الدنيا يُذِلّون بعضهم بعضاً، أما يسوع فمَن عرفه كان مستعداً لأن يتذلّل أمامه. امتلأ البيت من رائحة الطيب، من رائحة الحبّ الإلهي. امتلأ البيت من رائحة يسوع. حيثما حلّ يسوع فاح طيب الحياة الإلهية. عمانوئيل، الله معنا. ما فعلته مريم أثار اعتراضاً: "لماذا لم يُبَع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويُعط للفقراء؟" "اتركوها. إنّها ليوم تكفيني قد حفظته...". حين نكون في معرض النبوءة تبطل يوميات الناس ويبطل منطق الناس. مريم بسكبها الطيب، من حيث لا تدري، تنبّأت بموته،


وليس بموته فقط، بل بقيامته أيضاً. فحيث الطيب هناك تزهر الحياة. الموت لا يبثّ طيباً بل نتناً. أما الربّ يسوع فطيبٌ كلُّه قبل وأثناء وبعد موته.

إذاً، بيت عنيا، بيت الفقير، دخل إليها يسوع علامة لاقتباله الفقر، لاقتباله إفراغ الذات.


الفقير الذي افتقر لأجلنا جاء ليقيم بين الفقراء وليقيم الفقراء. لذا أضحت بيت عنيا الفقراء بشارة تذيع بالغنى الإلهي الذي حلّ فيها. ثمّ من بيت عنيا بالذات، كما في إنجيل لوقا، صعد الربّ إلى السماء حاملاً فقراء كونِ بيت عنيا ليجلس بهم عن يمين الله الآب.

بعد أن أعطى ربُّنا كل هذه العلامات في بيت عنيا دخل إلى أورشليم ليتمِّم كل النبوءات وكل عمل الله، منذ فجر التاريخ، وكلّ مقاصد الله.


كل هذه المقاصد اكتمل باستقرار الربّ يسوع لا على العرش السماوي، بل على عرش الحبّ المتمثِّل بالصليب. من هناك، من على الصليب، إذ كان السيّد على أهبة أن يسلم الروح قال: قد تمّ! قصد الله تمّ واكتمل. ثمّ أحنى رأسه وأسلم الروح. لما أسلم الروح أبان أنّ الله محبّة، أنّ الله نور وأنّ الظلمة لم تدركه. ل

ما أسلم الروح نفخ الروحَ القدس في العالم. ساعتذاك، كما نعرف، انشقّ حجاب الهيكل. الفاصل بين ما للناس في العالم وما لله انشق. مذ ذاك لم يعد هناك ما يفصل الإنسان عن الله.


لذا هتف الرسول المصطفى بولس: "إنّي متيقّن أنّه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات ولا أمور حاضرة ولا مستقبَلة ولا علْو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربِّنا" (رو 8). الحجاب انشق وروح الله انسكب على العالَمين.


لقد بات بإمكان أيّ كان أن يصعد، بالإيمان بابن الله، على هذا السلّم، الذي هو الربّ يسوع إيّاه، إلى ملكوت السموات، إلى أورشليم العلوية.

في هذا الأسبوع، الآتي علينا بالله، نرتِّل: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم...". هذا لأنّنا نتشوَّف إلى أورشليم العلوية. أورشليم الأرضية لا تعنينا إلاّ كموقع نسلك فيه في إثر المسيح حاملين الصليب. الصليب حصّتنا وبركتنا في هذا الدهر. نحن نعلم أنّنا في الحقّ، كما قال يوحنّا الحبيب، وأنّ العالم كلّه قد أُسلم في يد الشرّير. لكن يبقى هناك شهود للحقّ في هذا الدهر.
هؤلاء يشهدون ولكن من على الصليب. يشهدون بالحبّ الكبير، بالوداعة. يقيمون في هذا الدهر، لكنّهم ليسوا منه.
تراهم عابرين، باستمرار، إلى وجه ربّهم، إلى أورشليم العلوية، إلى فصح الربّ، إلى وعد الحياة الأبدية. إلى هناك نحن ذاهبون. هذه قِبْلتنا. لهذا نعبر هذا الأسبوع بصليب الربّ لنبلغ إلى القيامة المجيدة، ونحن بالغونها بإذن الله، بالغون إلى الفرح الذي لا أحد ينزعه منا.
 البارحة أعطانا السيّد، بلعازر، عربون قيامته، وغداً / اليوم وكل يوم نعاينه ناهضاً فينا من بين الأموات.
وكما صرخ أطفال أورشليم وناس أورشليم:
هوشعنا لابن داود نصرخ الأحد القادم علينا بإذن الله وإلى الأبد: حقّاً لقد قام الربّ!



Leave a Reply.