مقالة للمطران بولس يازجي

"سلام الله الفائق كلّ عقل يحفظ قلوبكم"

"أوصنّا" مبارك الآتي باسم الربّ، هكذا هتف الشعب يوم دخل الربّ يسوع إلى أورشليم، فاستقبلوه بالشعانين استقبال الملك الظافر والعائد إلى وطنه!

ولكن بعد أيّام سيصرخون لبيلاطس "اصلبْه اصلبْه"! لأنّ يسوع لم يجلب لرؤساء الكهنة والشعب "الغنائم" التي كانوا يشتهونها.

لقد كان ثمن تصريح يسوع: "مملكتي ليست من هذا العالم"، أن يرفعه اليهود على الصليب لأنّهم يريدون ملكاً مملكتُه في هذا العالم.

كان بيلاطس، الوالي الرومانيّ المستعمِر، متواجداً في أورشليم لحفظ الأمن أيّام العيد بسبب الجمهرة الكبيرة التي كانت تحصل في مثل هذه المواسم. وكان قد سمع كيف استقبل الشعب يسوع كملك.


لذلك عندما صلبه وضع علّته: "ملك اليهود". لكن رؤساء الكهنة اعترضوا آنذاك على هذه الكلمات. بينما ألحّ بيلاطس هزءاً بهم وبيسوع أن يكتب هذه العبارة ليقرأها الجميع.

تحمل هذه الكلمة معنى عميقاً جدّاً لا ينحصر في تصوير الأحداث التاريخيّة التي جرت تلك الأيّام. لأنّه عند لحظة صلب يسوع، وكتابة هذه "العلّة" انفتح تاريخ جديد بالكليّة في زمن العبادة والأديان.

هناك طريقتان في العبادة، تلك التي قبل "ملك اليهود"، وهذه التي لـ "ملك اليهود"! تلك التي لمملكة هذا العالم، وهذه للملكة التي ليستْ من هذا العالم.كانت العلاقة بين الله الإنسان قبل الصلب تتمحور حول "الشريعة".


فالشريعة كانت تحدّد لله دورَه وللانسان دورَه. فذاك يتعهّد بخلاص الإنسان وحمايته ورحمته… وهذا الأخير يتعهّد بحفظ وصايا ومتطلّبات الشريعة الدينيّة الطقسيّة والأخلاقيّة الاجتماعيّة. ولطالما زاغ كلّ طرف عن دوره عندما لم يحقّق الطرف الآخر دوره أيضاً. ولم يكن حظّ الله أفضل مما جاء في شريعته "العين بالعين والسنّ بالسنّ".    

ولما كانت الشريعة تحدّد الواجبات لله وللإنسان من جهة، وكان الإنسان كسولاً في طبعه مرّات عديدة من جهة أخرى، وكانت العلاقة ذات طبيعة "مقايضة"،

تفنّن الإنسان في إيجاد الطرق الأربح له في هذه المقايضة. كانت الشريعة تحدّد الحدّ الأدنى من الواجبات التي على الإنسان حفظها ليبقى الله إلهاً له. وكان الناس يقايضون ويفتحون "بازاراً" على حدود هذه الواجبات، بحيث ينالوا الأكثر من النِعَم مقابل الأقلّ من التقدمات.

ووصل الشعب ورؤساء الكهنة لحدود يتلاعبون فيها على الأنظمة والشرائع جعلوا الله فيها خاسراً كبيراً وجعلوا أنفسهم الرابحين بامتياز. ولم تكن هذه حالة اليهود وحدهم آنذاك، بل إنّ هذه هي التجربة الأبديّة في كلّ دِين أساسه الشريعة ورباطه الناموس.




لننظرْ إذن كيف تحايل الناس على الشريعة فحقّقوا مآربهم الشخصيّة باسم الشريعة. لقد كان السبب الحقيقيّ الذي دفع رؤساء الكهنة اليهود إلى الحكم على يسوع بالموت هو أنّ يسوع قسمَ الشعب قسمَين، بين مؤمنين به ومشكِّكين. فوقف "قيافا" وأعلن أنّه من الأفضل أن يموت واحد عن الشعب.


لأنّه إنْ تفكَّكت الأمّة كان قيافا يخشى أن يأتي الرومان ويقضون عليهم. ولكن رؤساء الكهنة حرّضوا الشعب وطلبوا من بيلاطس في محاكمة يسوع


أن يصلبه لأنّه مستوجِب الموت "حسب الشريعة". فاستخدموا الشريعة التي لم يكن بيلاطس على اطلاع بها، ولم تكن هذه الشريعة قادرة على إدانة يسوع.


لا بل اكتشف بيلاطس دون هذه الشريعة براءة يسوع. وأسلمه إليهم خوفاً من فوضى تدبّ في الشعب آنذاك. يؤكّد الكتاب المقدّس أنّ :

رؤساء الكهنة "كانوا يبحثون عن علّة" ليحكموا عليه، ولم يجدوا.


ولكن كان على يسوع أن يموت عن الشعب. هكذا خفى رؤساء الكهنة مصالحهم السياسيّة وراء استخدام كلمة "شريعة" أمام بيلاطس. فلم يكونوا بذلك يطيعون الله بواسطة الشريعة بل كانوا يستخدمون شريعة الله لتحقيق مآربهم،

ويطوّعون الشريعة لأهدافهم. فأفسدوا هكذا عمق العلاقة مع الله وهي الطاعة له.




كان يسوع ابناً لله وعابداً حقيقيّاً، أطاع حتّى الموت موت الصليب. وصرخ على الجبل "إنْ أمكن أبعد عنّي هذه الكأس، ولكن لا تكنْ مشيئتي لكن مشيئتك". "هذا هو الإنسان" والعابد الحقيقيّ، لهذا به "سُرَّ الله الآب".


يسوع افتتح الشكل الجديد والثاني للعبادة والعلاقة بالله. لقد كان "البكر" في كلّ شيء. العلاقة التي يؤسِّسها يسوعُ اليوم على الصليب لا تبتغي الحدّ الأدنى من التقدمات لله، ولكن تقدِّم الحدّ الأقصى. فالدِّين هنا ليس الواجبات التي نتفنّن في تخفيفها بل هو الحبّ الذي نتفنَن في تعظيمه. كلمة يسوع


"ليس حبٌّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه فدية عن أحبّائه"


تشرح سرّ العلاقة الجديدة، والدِّين الجديد. في العبادة الجديدة نعمل بطريقة الحدّ الأعظم وليس الحدّ الأدنى. وهذا الحدّ الأعظم لا تطلبه الشريعة ولا تفرضه الوصايا الإلهيّة؛ لكن يقدّمه القلب البشريّ المحبّ.


لم يُنـزل يسوع وصايا من السماء ليفرض على البشر طاعتها. إنّما رفع يسوع ذاته على الصليب فاجتذب البشر إليه. ما ينـزل هو شريعة يقابلها الناس بالرّياء والحدود الدنيا من الواجبات.


لكن مَن ارتفع جذب الجميع إلى بذل الحدود القصوى. وتمتاز الطرق الجديدة في العبادة بأمرَين أساسيَّين الأوّل هو الحريّة والثاني هو العزّة والمجد.


هكذا تقدّم يسوع إلى آلامه بحريّته. ولطالما صرّح يسوع أن له سلطاناً أن يبذل نفسه وله سلطان أن يستردّها. وروايات الآلام تكرّر كثيراً "كان يسوع يعلم أنّ كلّ شيء قد تمّ" في العشاء وقبل القبض عليه وعلى الصليب. كما أنّه أنبأ تلاميذه ثلاث مرّات عن تفاصيل "ساعته".


لقد كان بمستطاع يسوع ألاّ يأتي هذا العيد إلى أورشليم كما نصحه تلاميذه. لكنّه كان ماضٍ إلى أبيه ويعرف تماماً ما سيجري لهذا قال للتلاميذ


"مَن يسير في النور لا يعثر".

أراد اليهود مرّةً أن يرجموا يسوع فللوقت اختفى عنهم، لأنّ ساعته لم تكنْ قد حضرت، وذلك بقدرته الإلهيّة. وهنا في ساعات المحاكمة والصلب كان بالطبع بمقدوره أن يتجنّب ذلك، لكنّه يريد كلّ ما تمّ لأنّه سيقدّم بذلك "الحبّ الأعظم". هذا الحبّ الأعظم يبدّل المعايير.


لذلك لا يتكلّم الكتاب المقدّس عن القبض على يسوع بقدر ما يتكلّم عن تسليم يسوع ذاته. فقساوة ووحشيّة القابضين على يسوع في الإنجيل لا تغطي وجه الحريّة المطلقة التي كانت ليسوع حين أسلم ذاته إليهم. "لقد شرب الكأس التي كانت له" بحريّته.


لم يدافع عن نفسه ولم يهرب ولم يتردّد لأنّ الساعة كانت قد حضرت وكلّ شيءٍ قد تمّ. لم يصلْ مكرُ اليهود بيسوع إلى الصلب وإنّما قادته حريّته إلى ذلك لأنّها كانت مشبَعة بحبّه الأعظم.

لهذا، هذه الحريّة في تبني المسؤوليّات، الصغار والعظام، تحافظ للإنسان وللعابد عموماً على كرامته ومجده أمام الله. وإنْ بدا يسوع في الأناجيل رجل الآلام، رجلاً مشرّداً متروكاً وضعيفاً، إلاّ أنّ الأناجيل تفوح في كلّ عباراتها عن مجده وعظمته وسيادته. وهذه العبارة "ملك اليهود" وإن استخدمت حيناً للهزء به إلاّ أنّها كانت في قلب بيلاطس الذي لم يتجرّأ على الحكم عليه وإنّما اكتفى بتسليمه إلى أعدائه.


جرت العادة في كنيستنا أن تستبدل "العلّة" على الصليب من "ملك اليهود" إلى "ملك المجد". لقد أغمض يسوع عينَيه وأمال رأسه وأسلم الروح ليس كمقهور وإنّما في عنفوان مجده.

لا تعني عبارة "قد تمّ": قد انتهى! بل تعني هذه العبارة لقد أنهيتُ كلَّ ما جئتُ إليه ونجحتُ في كلِّ ما أردتُه وأتممتُ كلّ ما أعطانيه الآب لأعمله، لقد أطعتُ الطاعة الكاملة! هذه عبادة يسوع الطاعة حتّى الموت.


وهي عكس طاعة الشرائع التي وصلت إلى تمجيد الذات وصلب الله.     منذ دخل يسوع أورشليم وعندما رُفع على الصليب وسُمِّي "ملك اليهود" دشّن مملكة جديدة، وافتتح علاقة جديدة في الدِّين.


مملكة يسوع شريعتها ليست من هذا العالم. منذ صلب يسوع لا نقدّم واجبات بل نحقّق شهوة القلب الذي أحبّ يسوع ولا يرتاح إلى أن يقدّم "الأعظم".


هذا ما يخلق السلام الذي يفوق كلّ عقل، أن تُبنى علاقة الحبّ البنويّ عندنا مع الله الأب، أن نعلن ملكنا للملأ وسلامنا معه بالحبّ والعشق الإلهيّ الذي فينا نحوه.

هذه هي طبيعة حياتنا الكنسيّة عربون هذه المملكة. نحن لا نحيا فيها مجبَرين على تقديم بعض الواجبات أو الممارسات أو الإحسان أو الخدمة. نحن نحيا فيها بمعنى أنّنا نحيا منها. نحيا فيها إذن بحريّة وكرامة.


لا مكان للخائفين والذليلين في المسيحيّة.


نحن لا نخاف الله لأنّنا نحبّه (أنطونيوس الكبير). "التقوى" لدينا لا تعني أبداً أن "نُعبّس" ونستغفر ونحيا في الخوف. على العكس، تعني التقوى والفرح والخدمة، لأنّها تأتي من الحريّة وتتّصف بالمجد. مَن يعيش في هذه المملكة (الكنيسة) متردّداً بين واجب وبين تهرّب لا يعيش حياة الكنيسة.


مَن لا يبذل ويعطي ذاته بالكليّة لا يذوق الحريّة ولا يعرف طعم هذا المجد، وإنّما يبقى في الخوف ويصاب بسرعة بالرياء. نحن لا نحب الخدمة في الكنيسة قليلاً أو كثيراً. نحن لا نحب إلاّ الخدمة في الكنيسة.


لأنّ حبّ هذه الحياة هو في درجته العظمى وليس الدنيا. لن نعطي "البعض" بل سنفرح ببذل "الكلّ". وهذا يضعنا في الحريّة والمجد.

لا للناموسيّة التي تصرخ اليوم هوشعنا وغداً اصلبْه! لا للمقايضات التي تستقبل الآن وتفرش الثياب ولما لن تجد غنائم من هذا العالم ستعلن حكم الموت على "ملك اليهود"! هوشعنا مبارك الآتي ليأخذ كلّ القلب، هوشعنا مبارك الآتي ليأخذنا كلّنا معه، فحيث هو سنكون نحن، وكما هو سنكون.


هوشعنا أيّها الآتي سنصرخها ليس في الشعانين وحسب بل وسنتابع الهتاف حتّى الصليب مع المريَمات ويوحنّا الحبيب. هوشعنا لمن مملكته لهذا العالم ولكنّها ليست من هذا العالم.


هوشعنا للداخل إلى حياتنا ولكن لن يخرج منها، هوشعنا لملك المجد الذي علّمنا الحبّ الأعظم، هوشعنا لمؤسِّس الدِّين الجديد، هوشعنا لمن وهبنا الحياة بالحريّة والمجد، هوشعنا لإله السلام الذي معنا، آمـين.


 
مقالة للمطران بولس يازجي


" مبارك الآتي باسم الربّ "

في عجيج الأحداث الخلاصيّة، يقترب يسوع من أورشليم. وفي بيت عنيا تتأزّم مواجهته مع العالم، وتبدأ الأحداث تأخذ الطريق إلى نهايتها.


والإنجيل يوضح لنا استقبالَين ليسوع في تلك اللحظات الحاسمة. الاستقبال الأول تمّ في بيت "عنيا" حيث صنعوا له عشاءً وكان لعازر متكئاً، حيث ارتمت مريم عند قدمي يسوع وسكبت عليه طيباً من ناريدين خالصٍ جزيلِ الثمن، ومسحت قدميه بشعرها.


خلال هذا الاستقبال الرائع الذي قدمت فيه مريم أثمن ما عندها، كان هناك طرف آخر معاكساً تماماً؛ إنّه يهوذا. فقد كان سارقاً، وكان الصندوق عنده يحمل ما يلقى فيه. الاستقبال الثاني تمّ في "الغد"، على أبواب أورشليم حيث استقبله الشعب بسعف النخل هاتفين:


"هوشعنا، مبارك الآتي باسم الربّ ملك إسرائيل".

نستطيع أن نصنّف الذين استقبلوا يسوع في تلك الأحداث في ثلاثة نماذج:

في النموذج الأوّل تأتي مريم، هذه التي قدّمت في استقبال يسوع أثمن ما عندها.

لا بل مسحت قدميه بشعرها، وشعرها كان مجدها. لكن محبّة مريم للمسيح جعلتها ترى في إكرامه مجدها، وفي تبديد مالها على قدميه غناها، وفي حُسن استقباله حياتها.




في النموذج الثاني يأتي يهوذا. هذا الذي، بينما كان الآخرون يستقبلون يسوع، كان هو يريد أن يستغلّ وأن يربح للصندوق أكثر، بالنسبة إليه كان تمجيد يسوع خسارة له.


وكان مجد المسيح سينافس مجده، وكان حبُّه لذاته لا يسمح له بأن يرى الربّ يسوع محبوباً. أنانيّته لا تقبل إكراماً على حساب مصلحته، لأن مصلحته فوق المحبّة. بكلمة أخرى، كان تلميذاً يحبّ من أجل الصندوق الذي يحمله، يحبّ الآخر ليعود به إلى حبّ ذاته.


فالآخر وحتى يسوع نفسه، هو فرصةٌ للاستفادة. هذا أحبّ ذاته فغدتْ حياة يسوع موتاً له وموت يسوع حياته.




في النموذج الثالث يندرج الشعب، الذي يرفع المسيح في الشعانين إلى ملك ليصلبه بعد أيام. فهنا يصرخ هوشعنا، خلِّصْنا، وهناك ارفعْه، اصلبْه.


هنا يستقبله بسعف النخيل وهناك يضربه بالقصبة، هنا يبسط ثيابه أمام حماره وهناك يقتسم ثيابه، هنا يترك الكتبة ويتبع يسوع وهناك يتبع الكتبة ويترك يسوع، هنا يخرج لاستقباله ويدخله إلى أورشليم


وهناك يخرجه ليرفعه على خشبة خارج أورشليم. هذا هو مصفّ الشعب المتأرجح.    




ونحن؟ غالباً ما ننضّم إلى هذا الصفّ الأخير، نتأرجح بين إيمان ونكران، بين حبّ وبرودة، مرّة نعرف ذواتنا رسلاً وأخرى نتصرّف كأعداء.


حيناً نريد أن نموت من أجله وحيناً ننكر نعمة موته من أجلنا.




وعيد الشعانين! لا بدّ أنّه أبعد من البهجة بالثياب، وأنّ فرحه لا يأتي من السعف والزهور والشموع وحسب، فهذه كلّها تعابير. لكن ما هو العيد ؟




أحد الشعانين هو مدخلنا إلى أسبوع الآلام. إنّه اليوم الذي نقبل فيه سيّدَنا كمصلوب وندخله إلى حياتنا لنشاركه آلامه.


إنّه اليوم الذي نسير فيه مع الملك الآتي على درب القيامة التي رسمها هو لنمشي فيها معه، أي درب الصليب.


يوم الشعانين عيد نعلن فيه عن قبولنا بمثل هذا الملك الذي لم يعِدْنا بالراحة لكن بالشهادة. نقبل هذا السيّد الذي يمرّ بنا بالموت أوّلاً ومن ثمَّ يهبنا القيامة. عيد الشعانين دعوة نخرج على أثرها من مصاف الناس المتأرجحين إلى مصفّ مريم. دعوة نتحوّل عند سماعها من تلاميذ يحبّون أنفسهم إلى تلاميذ يحبون سيدهم فقط.




المسيح يأتي ويدخل لتتمّ النبوءة على لسان سمعان الصدّيق أنّه جاء لقيام وسقوط كثيرين. مجيء المسيح في عيد الشعانين لا يسمح لنا بعد أن نبقى محيّرين.


جاء يسوع ليلغي النموذج الثاني وليقيم النموذج الثالث، لذلك تقول الترانيم علناً:


إنّنا نحمل صليبك (ورمزه الشعانين) ونرفعه ونقول:

مبارك الملك الآتي باسم الربّ
.


 

مقالة للمطران بولس يازجي

مبارك الآتي باسم الرب (خلصنا) هوشعنا

هذه هي الصرخة التي ستملأ أجواء هذا اليوم والتي سمعناها في الإنجيل.

هناك عبارة أخرى، من أجمل كلمات بولس الرسول، تتذكرها الكنيسة في هذا العيد، وهي:

"افرحوا يا أخوة وأيضاً أقول افرحوا… وإله السّلام يكون معكم".

هذا هو الملك الآتي، إنّه ملك إسرائيل، ملك السّلام. هوذا الذي على رتبة "ملكيصادق" أي ملك البرّ.    

الإنسان بطبيعته ومنذ فجر التاريخ يسعى للسلام. ويرى في تحقيق ذلك سعادته وهناءه. لكنّه غالباً ما يُخطئ في اختيار الدروب التي يظنّها ستوصله إليه.

لتحقيق السّلام طالما سقط الإنسان في الحروب. من أجل السّلام استخدم كثيرون الاستبداد، في طلب السّلام تهافت آخرون على جمع المال ظانّين أنَّهم به سيجدون الاستقرار ويحقّقون السّلام.

في سبيل السّلام لم يوفِّر البعضُ على أنفسهم استخدام أيّة وسيلة، مهما كانت، ولم يترددوا في سلوك أيّ درب خاطئة.

إنَّ قراءة واعية للتاريخ البشريّ توضّح، من جهة أولى، سعي الإنسان الحميم إلى السّلام، ولكنّها تظهر أيضاً فشل أغلب تلك الدروب التي سلكها، وأغلب الحلول التي طرحها.

اليهود أنفسُهم، الذين سمعنا هتافهم اليوم في النصّ الإنجيليّ:

"خلصنا، مباركٌ الآتي باسم الرب"، عاشوا تاريخهم الطويل المعذّب وهم ساعون في عطشٍ إلى السّلام. ابتغوه،

لكن أحلامهم رأته من خلال الاستقلال، ولم يكن ذلك يعني ما هو أقلّ من الاستبداد أحياناً عديدة، وتوقعوه في التحرير ولو كان ذلك يبرّر مرّات استعباد الآخرين.

طلبوا السّلام في أحلام المجد والسلطان، في فلسفة السيطرة، ورغبات الهيمنة، ومن منظار الحكم، غير متذكرين نبوءة زخريا (9، 9)

"افرحي يا ابنة صهيون لأنّه هوذا ملككِ يأتي إليكِ راكباً على جحش ابن أتان".



بعد ثلاث سنين من التعليم والأعمال، أشرف الربّ يسوع على أبواب أورشليم في جوٍّ من التحدّي القاسي، ودخلها دخول الفاتح بعد إقامة لعازر.

لقد سبى قلوب الناس بسيطرته حتّى على الموت. ورأى الشعب به محطَّ أحلامه، فدخل أورشليم كملكٍ لإسرائيل. لكنّه دخلها في وجه من الغرابة، على ابن أتان.

إنَّ يسوع بدخوله الظافر هذا، وبهذا الأسلوب، يريد أن يُعلن عن طبيعة ملكوته. إنّه ملكوت البرّ والسّلام الحقيقيّ. وهذا ما يشدّد عليه نصّ الرسالة اليوم:

"ما هو من طهارة، من عفاف، من عدلٍ، من كلّ صفةٍ محبَّبةٍ، من حُسنِ صيتٍ، إن تكن فضيلةٌ وإن يكن مدحٌ ففي هذا افتكروا… وإله السّلام يكون معكم".

هذه هي أسلحة السّلام الذي نسعى إلى تحقيقه. إنَّ الربّ يسوع الفاتح اليوم، يؤسّس هذه المملكة. هذه هي دروب السّلام، وهذا ما يعنيه زيّاح الشعانين.

هذا الزياح هو "مسيرة" المسيحيّين السّلاميّة يرفعون فيها شعاراتهم، وأهدافهم، وأسلحتهم، ألا وهي سعف النخيل، والتي يفسّرها التقليد كلّه على أنّها رموز الفضائل، كما تقول الأناشيد المباركة.

هكذا فتح الربّ يسوع أورشليم، وبذلك افتتح هذا الملكوت السّلاميّ تاركاً لنا، نحن المسيحيّين، إكماله وتحقيقه على وجه الأرض كلّها. المسيح دخل ملكاً على أورشليم مرّة لنملّكه نحن على العالم بأسره أبداً.

   

الكنيسة وحدها بالبرّ الذي تعلِّمه، وتحياه، وتبشِّر به، هي مركز السّلام على الأرض بين الشعوب، لا بل علامته وقوته.

   

ملكوت هذا الملك هو الكنيسة، التي تبني البرّ وتهدم أركان الشّر؛ التي تربط الناس بالمحبّة لاغيةً الفوارق وكل تسلّط في أيّة سلطة.

إنّها تجمع فعلاً في مقابل كثير من التجمعات التي تجمع لتفرِّق. الكنيسة تلغي الفروقات، وكل تمييز أو عنصريّة فتصالح البشر، وتجعلهم يتبارون بالبرّ وليس بحسب تلك المميّزات.

   

الزيّاح بالشعانين "مسيرة" هذا هو فحواها، نعلنه لنا وللآخرين، أنّنا نؤسّس ملكوتاً، القوّة فيه هي المحبّة، والرفعة هي التواضع، والمجد هو الخدمة، والسيّد هو الآتي على ابن الأتان.

هذه هي مجازفة الإيمان، والإيمان دون مجازفة باطل. إيماننا أنّنا كسيّدنا سنبقى مؤمنين، أنّ الظلم ضعيف لأنّه يعْبُر، لكنَّ التضحية ولو بدأت بالموت هي حبّة ستقوم إلى سنابل ظفر.

كلّ ما هو ضعيف في نظر الناس هو بإيماننا أقوى سلاح. كثيرون تسلَّطوا على الناس بالسّلطان وفتحوا الدنيا بالعنفوان، كلّهم كانوا وحسب، وحده ربّنا كان، ولأنّه حارب بالحبّ، كان وسيأتي.

يضطهدوننا بالظلم نقابل بالغفران، يتسلّطون بالمجد نردّ بالتواضع، لأنَّ إيماننا يعرف أنّ الظلم يموت بينما الغفران يقوم، ذلك واهٍ وهذا الأخير حيّ لا يموت. إنّنا، كما تقول الترانيم، نرفع صليبك يا ربّ ونقول:

أوصنا في الأعالي مباركٌ ملك إسرائيل الآتي باسم الربّ.