بقلم: الدكتور عبد الله حمصي

 

كثيرون من الناس يسألوننا: من هي مريم العذراء ؟ . وحقيقة نحن لا نعرف كيف نجيبهم. والسبب قد يكون لقصر وقت الحديث أو قد يكون قلة إطلاعنا على الإنجيل واللاهوت المريمي, وحتى جهلنا لعقائدنا المسيحية التي نؤمن بها.

إننا نصلي " السلام عليك يا مريم " ونقول فيها : يا والدة الله , صلي لأجلنا ... من الآن ولساعة موتنا. مريم هي أم الله وشفيعتنا وأمنا وهي أمي أنا شخصياً.

قبل التأمل في هذه الألقاب أوجز قصة مريم العذراء كما هي في الإنجيل والتقليد واللاهوت المسيحي.

مولد مريم العذراء

كُتب في إنجيل يعقوب المنحول (غير قانوني أي لا تعترف به الكنيسة أنه موحى به من الروح القدس) أن أبوا مريم هما يواكيم وحنة . وقد قبِل باسميهما التقليد المسيحي.

في ذلك الزمان أعطى الله هدية ثمينة لهذين الزوجين, هدية مقررة ومختارة قبل إنشاء العالم . وكهدية من الله تعالى للبشرية فقد عصم الله مريم من الخطيئة الأصلية عندما حُبل بها من والديها يواكيم وحنة. لقد أراد الله أن تكون مريم متسامية, طاهرة, نقية فحفظها من كل خطيئة منذ الحبل بها. لقد آمنت الكنيسة الأولى بعصمة مريم من الخطيئة الأصلية منذ أن حُبلت بها أمها حنة. والكنيسة الكاثوليكية حددت, في زمن البابا بيوس التاسع , في عام 1854 عقيدة الحبل بلا دنس بمريم من قِبل والديها يواكيم وحنة . ويقول نص العقيدة : " نعلن ونحدد بأن الطوباوية مريم العذراء قد حُفظت سليمة من كل دنس الخطيئة الأصلية منذ أول لحظة الحبل بها, بنعمة وإنعام خاص من الله القدير على كل شيء, بالنظر إلى استحقاقات يسوع المسيح , مخلص الجنس البشري, هي عقيدة أمحى بها الله ".

الحبل بيسوع

إن مريم هي خطوة أساسية في تاريخ الخلاص للبشرية كلها. فكان لقاء عظيم جداً بين السماء والأرض, بين الملاك جبرائيل ومريم الشابة المخطوبة ليوسف. كان لقاءً بين عطية الله وحرية الإنسان . وكان بوسع مريم القبول أو رفض هذه العطية الإلهية. فالله لم يرضى أن يتجسد بشراً دون رضا مريم , رضا البشرية جمعاء. وعندما أجابت مريم الملاك: " ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك " , قالت نعم لسرّ تجسد الله بشراً. والبشرية كلها قالت لله مع مريم : تعال يا رب وأنقذنا وصالحنا مع الآب خالقنا ومحيينا, وعش معنا إلى الأبد بروحك القدوس. قالت مريم " نعم " واهتزت السماء فرحاً, وفرحت البشرية في كل زمان ومكان.

حبلت مريم بيسوع بقدرة الروح القدس وانكشف سر الثالوث الأقدس :" الروح القدس يحل عليكِ يا مريم, وقدرة العليّ تظللك, ولذلك فالقدوس المولود منك يدعى ابن الله ". وبهذا التدخل الإلهي في تاريخ البشرية بواسطة مريم العذراء آمنت الكنيسة ببتولية مريم . مريم هي الدائمة البتولية أي إنها بتول قبل الولادة وأثناء الولادة وبعد الولادة.

ماذا تعني بتولية مريم ؟ بتولية مريم تعني اتحاد كل كيان مريم بالله. لقد امتلك الله مريم وملأها نعمة وقداسة وطهارة ونقاء. فجعلها امرأة كاملة, دائمة البتولية, وفائقة القداسة. لقد أوحى الله بهذا قبل مئات السنين على لسان أشعيا النبي: " ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً " (أش 7: 14).

وعاشت مريم مع يسوع

عاشت مريم القسم الأكبر من حياتها تربي يسوع وتخدمه وتغذيه وتعله الكتاب المقدس, وتسمع كلامه, " وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتفكر به في قلبها " (لو 2: 51). قضت مريم حياتها مع يسوع تتأمل فيه وتؤمن به, وبواسطته تتحد بالله فبلغت أسمى درجات الكمال في حياتها هذه المثالية وفي طاعتها لله.

مريم هي المثال الأعلى للأمهات وللنساء قاطبة ولنا جميعاً, مثال للحنان والرعاية, للحب والاهتمام, مثال للتهذيب والأخلاق الرفيعة. رافقت مريم يسوع في حياته العلنية فكانت التلميذة الأولى في مدرسة ابنها يسوع المسيح . وتأملت في قلبها كل العظائم التي يحققها الله على يد يسوع , والخلاص الذي يحمله للناس.

لقد استقبلت مريم الكلمة في حياتها وامتلأت منها , ولكنها لم تحتفظ بها لذاتها بل أعطتها للبشرية جمعاء, أعطتها لنا ولكل واحد منا. ومريم تدعونا لننتمي إلى عائلتها, إلى عائلة يسوع المسيح ربنا وإلهنا. إنها تدعونا اليوم إلى قبول كلمة الرب في حياتنا فنعمل بموجبها كل يوم لنصير مسيحيين.

تأملت مريم بآلام يسوع

لقد شهدت مريم الجمعة العظيمة: القبض والتعذيب وصلب وموت ودفن ابنها ووحيدها وحبها يسوع . أين هم التلاميذ الشجعان ؟ أين نيقوديموس صاحب النفوذ ؟ أين لعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات ؟ أين قائد المئة ؟ أين يائير رئيس المجمع ؟ أين هم كل الذين شفاهم يسوع ؟. واحدة بقيت مع يسوع برفقة يوحنا الحبيب. لقد صمدت مريم, الأم الحنون, أمام مشهد آلام ابنها. لم تترك مريم يسوع من المهد إلى اللحد. لم تتركه أبداً, ثلاث وثلاثون سنة تأملت به وسمعت له ورأت مجده. وفي النهاية لم تنهار مريم أمام الصليب وأحست بخنجر يُغرس في صدرها كما تنبأ لها سمعان الشيخ. بقيت مريم منتصبة واقفة أمام الصليب ترى ابنها يسوع يتألم ويفقد قواه شيئاً فشيئاً إلى أن أسلم الروح. وعاشت مريم نور القيامة, قيامة يسوع المسيح من بين الأموات.

مريم هي الإخلاص الكامل حتى النهاية.

تلقت مريم روح ابنها القدوس في العنصرة

كانت مريم مجتمعة مع الكنيسة الأولى عندما نالت معهم الروح القدس. سرّ مريم إذاً يرتبط بسرّ الكنيسة .. إن مريم تقدّس الكنيسة بأمومتها وإيمانها وأمانتها ليسوع, والكنيسة تقدّس مريم العذراء وتعلن العقائد الإيمانية في سرّ مريم : الحبل بلا دنس, البتولية الدائمة, انتقالها بالنفس والجسد إلى السماء ... . الكنيسة تعلن مريم العذراء شفيعة لنا لدى ابنها ربنا وإلهنا يسوع المسيح .

موت مريم العذراء وانتقالها بالنفس والجسد إلى السماء

لقد شهد التقليد المسيحي لهذه العقيدة الإيمانية على مر الأجيال, فلقد انتشر عيد انتقال مريم العذراء إلى السماء في 15 آب منذ القرن الخامس.

ولكن لماذا الانتقال ؟. يجيب القديس يوحنا الدمشقي : " كما أن الجسد المقدّس النقي, الذي اتخذه الكلمة الإلهي من مريم العذراء , قام في اليوم الثالث, هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر, وأن تجتمع الأم بابنها في السماء ".

إذاً البابا بيوس الثاني عشر, رأس الكنيسة الكاثوليكية, بادر في عام 1946 بأخذ آراء الأساقفة الكاثوليك في العالم أجمع بشأن تحديد عقيدة انتقال مريم العذراء بنفسها وجسدها إلى السماء. فتهلل العالم الكاثوليكي بأسره وتقبّل معظم أساقفته هذه البادرة البابوية بفرح عظيم. وفي 1 تشرين الثاني 1950 أعلن قداسة البابا نفسه انتقال العذراء مريم بنفسها وجسدها إلى السماء عقيدة إيمانية : " إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها, أن مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب, بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي ".

إن مريم بانتقالها إلى السماء تدعونا إلى أن نعيد النظر في نوعية إيماننا وصلاتنا ومحبتنا . إنها تريد أن ننتقل من اليأس إلى الرجاء, من الخطيئة إلى البرارة, من الحقد إلى المسامحة. إنها تدعونا لكي نزيل الحواجز من أعماقنا فننفتح على الله وعلى الآخرين.

والآن وبعد هذه اللمحة القصيرة والسريعة لحياة مريم على الأرض, نقول أن مريم العذراء هي أم الله وشفيعتنا وهي أمّنا وأمي أنا

مريم العذراء أم الله

سمّى المسيحيون الأوائل مريم العذراء بـ:" ثيوذوكس " باليونانية وتعني: التي تلد الله, التي تضع الله وقد اتفق على ترجمتها إلى لغات العالم بـ:" أم الله ". جاء مجمع أفسس (431 م.) لينهي بعض الجدل الذي قام حول هذه التسمية. فقرر أن المسيح هو شخص واحد في طبيعتين. وأن مريم هي أم هذا الشخص الواحد ذو الطبيعة الإلهية والإنسانية, أي أن مريم هي أم شخص ابن الله , فهي حقاً " والدة الإله ". وقد قال القديس غريغوريوس (330-395) قبل المجمع بكثير:" الإنسان ابن الله قد اتخذ لنفسه جسداً من مريم العذراء. لذلك حقٌ لمريم العذراء أن تدعى " والدة الإله ".

مع الأسف, في وقتنا الحاضر, لم نعد نندهش لهذا اللقب " أم الله ", فنحن نصليها مراراً وتكراراً وتخرج من فمنا دون شعور , فليس لدينا وقت للتأمل فيها والغوص في معناها واستخراج أسرارها لتدخل في حياتنا اليومية. ولكن مسيحيي الكنيسة الأولى دُهشوا وتسائلوا: كيف تكون هذه المرأة البشرية المخلوقة أم الله اللامحدود والكلي القدرة وخالق كل شيء ؟! . ولكن القديسة مريم هي حقاً أم الله. هكذا أوحى الله في الكتاب المقدس, وهكذا رأى الآباء القديسون ومجامع الكنيسة, وهكذا قالت مريم في ظهورها في غوادالوبي في المكسيك إلى خوان دييغو: "أنا الدائمة البتولية, أم الله الحق".

هكذا أراد الله أن يولد ويتجسد في أحشاء مريم الطاهرة, والكلمة صار جسداً من الروح القدس ومن مريم وعاش بيننا ليحقق المخطط الإلهي الخلاصي للبشر.

مريم العذراء هي شفيعتنا لدى الله

مريم هي شفيعتنا لأنها أم الله . في قانا الجليل تشفعت مريم لدى ابنها يسوع, ومع أن ساعته لم تأت بعد, قَبِل شفاعتها وحوَّل الماء خمراً وأجرى أولى معجزاته, معجزة العرس والفرح . وهكذا يفعل ربنا وإلهنا يسوع المسيح دائماً إذا تشفعنا لديه بأمه مريم العذراء عن إيمان وثقة ومحبة.

في القرون الخامس والسادس عشر دخل الأتراك إلى أوروبا منتصرين لنشر الإسلام, وكان هناك خطر حقيقيّ وكبير على المسيحية في أوروبا, عندها سلّح البابا بيوس الخامس الكنيسة بالمسبحة الوردية للدفاع عن الحضارة المسيحية. وفي 7 تشرين الأول 1571 تقابل الأسطول المسيحي والأسطول التركي في معركة ليبانتو الشهيرة, وكان انتصار المسيحيين عظيماً وكبيراً, حتى أن السلطان التركي سليمان قال: أخاف من صلوات البابا للسيدة مريم أكثر من الجيوش الأوربية.

لقد ظهرت رسومات ونقوش وأيقونات تُظهر مريم العذراء رافعة يديها نحو السماء متضرعة إلى الله. هكذا نراه في نقوش دياميس روما والعملات البيزنطية والأختام الإمبراطورية ونقوش حجرية بارزة مثل النقش على واجهة كنيسة القديس ديمتريوس في حلب حيث تبدو مريم العذراء رافعة يديها مصلية ومتضرعة ومتشفعة ومتوسطة بين البشر وابنها يسوع المسيح ربنا وإلهنا.

مريم هي أمنا : ما أروع كلام يسوع المصلوب لأمه وليوحنا الحبيب : " هذه أمك " , " هذا ابنك ". هكذا, وبكل محبة لنا, جعل يسوع أمه مريم أمنا كلنا. أم لكل البشرية, إنها حواء الجديدة لبشرية جديدة.

كلنا نحتاج إلى أم وخصوصاً في الأوقات الصعبة في الحياة, في الضعف, في الوحدة, في أوقات الشك, في الألم . ومريم تعزينا وتشجعنا وترافقنا في طريق يسوع .

مريم العذراء هي أمي : كان القديس ستانيسلاو يردد بشوق وحنان : " أم الله هي أيضاً أمي ".

هناك علاقة حب بين مريم العذراء وبيني, بين أمي مريم وبيني. أحب أمي مريم العذراء منذ أن علمتني أمي الأرضية كيف أصلي لأمي مريم السماوية.

أمي التي أنجبتني وربتني وكبرتني قد عادت إلى منزل أبيها الله تعالى, وتركتني تحت وصاية وحماية أمي مريم العذراء التي تحبني حباً جماً كما أحبت ابنها يسوع المسيح .

أصلي إلى أمي مريم العذراء مع أمي والبابا يوحنا بولس الثاني رحمهما الله : أنا كلّي لكِ يا مريم .