المطران يوسف أنيس أبي عاد

المقدمة

  • سر التوبة يمر بأزمة لا تخفى على أحد، فكثير من المؤمنين قد نسيه أو تناساه اليوم. بعضهم من لم يعترف منذ المناولة الأولى (أو الاحتفالية)، والبعض الآخر يغيب عنه مفهوم هذا السر أو يُشكِّك في مفاعيله ونعمه.

  • لسر التوبة والمصالحة أسماء أخرى تستعمل هنا وهناك، فهو يُسمّى تارة سر الهداية وتارة سر الاعتراف وأيضاً سر الغفران . أما نحن فقد اخترنا الاسم المتداول اليوم ألا وهو سر التوبة والمصالحة.

ففي رسالتنا هذه لسنا نتطرق إلى سر التوبة والمصالحة بكل أبعاده، بل نكتفي ببعض المفاهيم المهمة، مُسلِّطين الأضواء على أسباب "الابتعاد عن هذا السر وكيفية التقريب إليه"، معتمدين منهجية السؤال والجواب على مسائل عديدة تعترض اليوم الإقبال عليه، وذلك تماثلاً بما يقوله قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن أن هذه العراقيل يجب مواجهتها بوسيلتين اثنتين: تقديم تعليم الكنيسة إلى المؤمنين، وإقامة الحوار معهم.

ونقسم رسالتنا إلى قسمين: الأول يتناول مفهوم الخطيئة والمسائل المطروحة حوله، والثاني معنى سر التوبة والمصالحة والمسائل المتعلقة به.

أولاً - مفهوم الخطيئة والمسائل المطروحة حوله

1- الخطيئة ما هي: نظرة لاهوتية-كتابية

2- الصعوبات التي تعترض مفهوم الخطيئة وبواعثها والجواب عليها

  • الباعث الأول: تضاؤل معنى الخطيئة

  • الباعث الثاني: ظلام الضمير الأدبي الديني

  • الباعث الثالث: المزج بين الشعور بالذنب والخطيئة

  • الباعث الرابع: صعوبة التيقّن من حالة البرارة وحالة الخطيئة

1- التعرف إلى حالة البرارة

2- التعرف إلى حالة الخطيئة

أ: أنواع الخطيئة

ب: فداحتها

  • الباعث الخامس: الخطيئة المميتة والخطيئة العرضية

  • الباعث السادس: الخطيئة الاجتماعية والخطيئة الشخصية

    1- الخطيئة ما هي؟ نظرة لاهوتية - كتابية

  1. الخطيئة والوحي الإلهي

  • الخطيئة حقيقة داخلة في علاقتنا مع الله.

  • لو لم يكن الله موجوداً لما كانت الخطيئة. فالخطيئة بالمفهوم الإنساني المحض، وخارجاً عن أضواء الإيمان بالله، تُعتبر خطأً، أو جريمة، أو مخالفة، أو انحرافاً وليس إلا...

  • لا يمكن للإنسان أن يسبر مفهوم الخطيئة إلا بالرجوع إلى شخص المسيح يسوع فإنّ فَهْمَ خطورة الخطيئة وفَهْمَ حقيقة يسوع بالذات يتلاقيان في حركة واحدة فالإنجيل يقول إن المسيح بذل ذاته من أجلنا وأعطى دمه لمغفرة الخطايا (متى 26/28).

  1. الخطيئة بحد ذاتها :

  • إنها إهانة تطال الله مباشرة – هي طعن لعمل الخلق والفداء ولتحقيق الذات وللعلاقة مع الآخرين والعالم.

  • ليست الخطيئه شعوراً داخلياً محضاً أو حالة نفسية ... إنها فعل إهانة لله وكسر العهد معه، هذا العهد المُبرَم بدم المسيح.

  • وللخطيئة تشابيه كثيرة في الكتاب المقدس: هي المعصية (تكوين 3)، هي أشبه بِعُقوقية الولد تجاه الوالد المحب (أشعيا 64/1-8)، نكران الأمانة (هوشع الفصل 2)، هي تفضيل الظلمة على النور (روما 1/21000، هي تنكُّر للإيمان (روما 3/21) وتنكُّر للمحبة (1يوحنا الفصل 3).

  • لكن الخطيئة على شناعتها و فظاعتها تُظهر بالوقت نفسه قدرة الإنسان العظيمة المعطاة له من الله، والتي بها يستطيع أن يقف أمامه تعالى ويرفض حبه ويتخطى وصاياه ويقول له" كلا، لا أريد".

    2- الصعوبات التي تعترض مفهوم الخطيئة

1 - صعوبات مختلفة

"في الواقع يقول قداسة البابا إنّ سر الاعتراف يواجه صعوبات كثيرة: من جهة ظلام الضمير الأدبي والديني، تضاؤل معنى الخطيئة، تشويه مفهوم الندامة، قُعود الهمة فيما يخص الحياة المسيحية الصحيحة؛ ومن جهة ثانية: العقلية السائدة هنا وهناك التي تقول باستطاعة الحصول على المغفرة من الله رأساً، وحتى بطريقة عادية، بدون الاقتراب من سر المصالحة، وأيضاًَ عادة ممارسة الأسرار بطريقة تفتقر أحياناً إلى الحرارة والعفوية الروحية".

فقبل الولوج في عرض كل من هذه الأسباب وغيرها مما سنفصله لاحقاً، نود أن نتوقف قليلاً على "قعود الهِمّة في الحياة المسيحية"، وعلى "افتقار ممارسة الأسرار إلى الحرارة والعفوية الروحية".

هذه الدوافع الأخيرة لا يُسأل التائب وحده عنها، بل والجماعة الكنسية برُمّتها. فإذا كان هناك "قعود الهمّة في الحياة المسيحية" فغالباٍ ما تكون أسبابه في تضاؤل الإيمان، أو في الكسل، أو في الانصياع لروح العصر والعالم، عند الرعاة والمؤمنين على السواء، وهذا كله يتداخل في أسباب الابتعاد التي سنفصّلها فيما بعد.

2 - تفصيل هذه الصعوبات

الباعث الأول: تضاؤل معنى الخطيئة

السؤال: كيف أفهم معنى الخطيئة سيما وأنا لا أشعر أني خاطىء؟..

الجواب: لعدم فهم معنى الخطيئة أسباب مختلفة بنظرنا، أهمها:

أ- تطور مفهوم الخطيئة ( نظرة أنطرويولوجية)

أمس كان مفهوم الخطيئة يتداخل في كل الحالات الإنسانية، اليوم أصبح المفهوم وكأنه غريب عن الإنسان المُتَعَلْمِن.

أمس، كان مفهوم الخطيئة "مُشيّئاً" نوعاً ما: الخطيئة هي اللطخة، أوالعيب، اليوم أصبح المفهوم علائقياً (الخطيئة هي كَسْرُ العلاقة مع الغير)

أمس كان مفهوماً فردياً، مركزاً على الأنا "أنا هو الخاطئ"، اليوم أصبح المفهوم جماعياً "الجماعة هي الخاطئة"

أمس كان المفهوم شرائعياً، الخطيئة هي عمل مخالف للشريعة، ووصاياها وموانعها، اليوم أصبح أكثر غموضاً وقد بدّلوا كلمة "الوصايا" بكلمة موانع والموانع تحبط عزيمة الإنسان و تكبِّله فيما هو بحاجة إلى تشجيع وإنعاش.

وقد عبّر الشباب عن ذلك في يافطة كتبوها لقداسة البابا عام 1986:، "لسنا نريد موانعَ، بل دوافع حياة (دوافع تحبّبنا بالحياة)"

أمس كان مفهوماً إيمانياً، متأتيّاً من الإيمان "بألوهية الله" وقداسته وبكلمتهُ واليوم أصبح مركّزاً على "إنسانية الإنسان" .... مفهوماً يتبدّل تبدّل ايدولوجيات الفرد و بيئته ومجتمعه والحضارة التي يعيش فيها والظروف المختلفة.

ب- دوافع هذا التطور :

1ً. تأثير الإيدولوجيات الماركسية و المادية :

* لا خطيئة إلاّ ما كان تعدّياً على المجتمع أو الجماعات البشرية.

- فكل خطيئة هي إجتماعية بمعنى أنّ مسؤوليتها لا تقع على الضمير الأدبي لشخص معين بقدر ما تقع في أغلب الأحيان على كيان مُبهم أو مجموعة لا إسم لها من مثل الحالة والنظام و المجتمع و البُنى و المؤسسة إلى ما سوى ذلك .

2ً. تأثير العلوم الإنسانية:

1- متطلّبات اللاوّعي الشخصي أو الجماعي هي التي تؤثر على تصرفات الإنسان وتفرض ذاتها على إرادته .... لا يمكن أن يناهض الإنسان متطلبات اللاّوعي وإلاّ وقع في الإحباط أو في الكبت ، ومن ثم في الحزن و الخوف و الاضطراب .

2- تخطي عقدة الذنب أو الشعور به، تكون بقبول الشخص لشخصيته كما هي، ودعوته إلى تفكيك عقده بنفسه أو عند محلل نفساني.

3- يجب القبول بالآخر كما هو ومحاولة تبرير أخطائه بضرورة تفهّم اضطراباته الداخلية ، و بالنظر إلى الحرمان الذي يشعر به و إلى قساوة المجتمع تجاهه، والأخذ بعين الاعتبار انعدام النضج الكافي لديه.

4- وفي الميدان العاطفي فإن تطور مفهوم العلاقة العاطفية و الجنسية أوجَدَ نزوعاً إلى استباحة سائر الأعمال في هذا المجال إلاّ ما ندر منها (كالاغتصاب والتعدّي على الأطفال) وذلك بُغية التخلص من الكبت وبلوغ الانشراح والاكتفاء الذاتي.

3ً. أسباب سوسيولوجية :

1- تنامي إدراك المُعضِلات على المستوى الكوني و التقليل من أهمية هذه المعضلات على مستوى الضمير الفردي.

2- تأثير و سائل الإعلام التي تخلق تعدّدية في الآراء، فيصير خلط في المراجع الأدبية و تذويب للمسؤولية الشخصية.

3- اعتبار الخطيئة خطأَ يمكن تجاوزه مع مرور الزمن وتبدُّل الظروف وخلق الأعذار والتمويه عن أهمية الأخطار اللاّحقة بالذات الشخصية أو بالآخر.

4- فقدان روح الجهد والتضحية.

4ً. أسباب فلسفية وايدولوجية وعَمَلانية

1- "العلمانية" وهي حركة فكرية مسلكية تفرض نظرية إنسانية تتجاهل الله كلياً وتحصرهما في العمل والإنتاج منجرفة في تيار الاستهلاك والملذات غير آبهة بخطر "هلاك النفس".

2- "النسبية المسماة بالتاريخية" وهي مسلكية تقول بأن القاعدة الأدبية هي نسبية فتنتفي عنها ما لها من قيمة مُطلقة، وتنفي بالتالي إمكانية وجود أفعال غير جائزة بحد ذاتها بمعزل عن الظروف التي يفعلها فيها من يفعلها.

3- العَمَلانية: تضاؤل مفهوم أُبوَّة الله يصدر عنه رفض كل علاقة بما يفوق الطبيعة البشرية، بحجة التوق إلى الاستقلال الشخصي-والانجراف وراء أمثلة مسلكية يفرضها التوافق والتصرف العام، ولو رذلها الضمير الشخصي، ونزعة إلى حصر الأخطاء والذنوب ضمن حدود المحيط الاجتماعي.

4- أجواء التراخي العام و فقدان روح الجهد والتضحية.

5. أسباب لاهوتية :

• في بعض الأوساط الكنسية غالباً ما يتكلمون عن الروح – روح الحرية، على حساب التكلم عن الآب الخالق – الضابط الكل و منظم الخليقة. مما يخلق ضياعاً في المرجعيات، والانزلاق نحو النسبية الأدبية.

• التخفيف من أهمية وجود الصليب الفاصل بين حياة وحياة في الإيمان المسيحي والتعتيم على سر الفداء والتغافل عن تصويب الحياة الزمنية نحو الحياة الأبدية التي دخلت إلى العالم بالمسيح يسوع و مازالت تتنامى فينا حتى بلوغ ملء الملكوت.

أمور كهذه من شأنها أن تُرجع الإنسان إلى بشريته المجردة وكأن العمل الخلاصي لم يتم أصلاً.
تطور مفهوم الخطيئة والأسباب التي ذكرنا، لا يمكن الجواب عليها بسهولة، فالنظرات الأنطروبولوجية الحديثة بما لها من أسباب ومفاعيل هي في تطور مستمر وتبدّل سريع وهي موضوع نقاش دائم وجدال بين الأخصائيين أنفسهم. ولكنها إن دلَّت على شيء فعلى فقدان الروح الإيمانية ونبذ المرجعية الإنجيلية وعلى التنكّر لتقليد الكنيسة وتعاليمها "فخطيئة هذا العصر هي فقدان معنى الخطيئة كما قال البابا بيوس الثاني عشر" عصرنا بحاجة إلى "بُشرى جديدة" كما يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، يكون بإمكان ناقليها أن يستوعبوا عقلية هذا العصر وعناصر تكوينها، ويُعلنوا البشرى الإنجيلية الأصيلة مُرفقة بشهادة إيمانية شخصية.


الباعث الثاني: ظلام الضمير الأدبي الديني

السؤال: "ضميري لا يؤنبني على كل شيء، فلماذا أُقْدم على سر التوبة والمصالحة؟"

توسع في السؤال في الواقع غالباً ما يحصل في فترات معينة ولدوافع مختلفة أن يُظلِم الضمير لدى الكثيرين، فيعيش الإنسان بخطر فقدان الضمير كلياً، أو في خطر إفساده أو تَخْديره!

فلماذا تكثّفت هذه الظاهرة في أيامنا؟ وما هي العناصر التي تشكِّل ثقافة عصرنا وقد تؤدّي إلى هُزال حس الخطيئة والابتعاد عن التوبة والمصالحة؟ من تلك العناصر:

أ- عقلية العصر الصناعي، وقد دخلت منذ القرن التاسع عشر وأعطت الإنسان شعوراً بأنه قادر على كل شيء (كأنه هو الله).

ب- الإلحاد العملي واللامبالاة: agnosticisme: حركة ثقافية لا تنكر وجود الله ولا تُقرّه في آن. وكأن صاحبها يقول: "إذا كان الله موجوداً فأنا لست معنياً بالأمر" أو "الله لا يقول شيئاً للبشرية أكثر مما نعرفه"!.

ج- المادية المُتَعَلْمِنَة: والتي تقول: "القيمة كلها نعطيها لهذا الدهر ولهذا العالم". والعالم الآخر ليس موجوداً، وإذا كان موجوداً فهذا لا يخصّنا".

د- العلمانية-الربوية: "الله موجود. لقد خَلَق العالم وخلقنا. لكنه تركنا وترك العالم يسير كل بمفرده."

هـ الاستهلاكية: فلسفة حياة تجعل الإنسان مُستعبَداً للأشياء. اعتبار الإنسان وتقديره لنفسه وللآخرين لا يقوم على "من هو هذا الإنسان"، بل على "ما عنده" وعلى "الكم الذي يُنتجه".

ز- التحررية الجنسية: حركة تتطلع إلى كل شيء بالإنسان من خلال الغريزة الجنسية... والحديث عن تداخل الحياة الجنسية في شتى أنواع الحياة روّجت له وسائل الإعلام والأفلام الإباحية والتساهل في تخطي المحرّمات كتشريع الطلاق والإجهاض ومنع الحمل والإدمان إلى ما هنالك...

و- التحررية المطلقة: التي تجعل الإنسان سائراً نحو إشباع رغباته الغرائزية وأهوائه المزاجية المتقلِّبة الميول والأطوار.

الجواب:

- أمام هذا الواقع المرير لكسوف الضمير الأدبي الديني هذا، لا يمكننا إلاّ أن نذكِّر بتعليم الكنيسة عبر العصور والأجيال، بأن الضمير هدية ثمينة يجب المحافظة عليها كالمحافظة على حَدَقة العين.

- الضمير هو المركز الأكثر عمقاً في داخل الإنسان، والهيكل الذي ينفرد فيه مع الله ويسمع صوته. إنه هذا النوع من الحس الأدبي الذي يُرشدنا إلى تمييز ما هو خير وما هو شر. هو كعين باطنية وأداة للنفس بصيرة.

ولأجل ذلك وُجب تثقيف الضمير تثقيفاً مسيحياً لكيلا يُصبح طاقة هدَّامة لإنسانية الإنسان الحقّة، ولكي يبقى المكان المقدس الذي يكشف الله من خلاله عن خيره الصحيح.

فمتى هَزُل الضمير، أَظلمَ حِسُّ الله، ومتى ضاع هذا المعلم الهام، فُقِد حِسُّ الخطيئة ومعناها ... فإذا ما أظلم الضمير أو تخدَّر يجب إعادة تنويره وإيقاظه من جديد لكي يستقيم. وهذا الضمير المستقيم يحدو بالتائب أن يقول بجرأة واتضاع أمام الله والكنيسة: "إني خطئت، أنا شخصياً، وأنا مسؤول عن أفعالي. "

الباعث الثالث: المزج بين الشعور بالذنب والخطيئة

السؤال: كيف نميز بين الشعور بالذنب والخطيئة ؟

الجواب:

• تحديد الشعور بالذنب

الشعور بالذنب هو حالة نفسية تعطي الإنسان انطباعاً بأنه يرزح تحت ثِقل كبير، وإحساساً بغصّة الندم وبأنه ماثل أمام محكمة داخلية مستعدة لإدانته وملاحقته في كل آن وهو أيضاً إحساس بالقلق تجاه عقاب مُحَتَّم وشعور بالخوف الناتج عن فقدان محبة الغير.

1. التمييز:

1. الشعور بالذنب هو بداية الشعور باقتراف الشر، والخطيئة هي هذا الشر بالذات أو هي المشاركة في عمل الشر.

2. الشعور بالذنب هو شعور بوصمة شخصية .... بالتدني و الذل ... الخطيئة هي تحقيق لهذا الشعور تحقيقاً يكون بالفعل أو بالقول أو بالفكر أو بالإهمال.

3. الشعور بالذنب يتداخل في الخطيئة لكنه ليس إلا من نتائجها ... فإذا ما زال هذا الشعور فالخطيئة لا تزول.

4. الشعور بالذنب يركز على علاقة " الأنا مع الأنا "أما الخطيئة فهي تشوه العلاقة مع الله و"الأنا" والآخرين.

5. الشعور بالذنب يتطلب المسامحة من الذات و من الآخرين لكي تخف وطأته أما الخطيئة فتتطلب المغفرة ... والمغفرة لا يمكن أن تمنح إلا من الله بالذات.

2. أهمية هذا التمييز

هو في أنه يُظهر الخطيئة كعمل ضد إرادة الله قبل كل شيء آخر مهما كانت أهمية هذا الشيء أو تأثيره على الحياة الشخصية أو الاجتماعية.

الباعث الرابع:صعوبة التيقّن من حالة البرارة وحالة الخطيئة

السؤال:

1- كيف أميز إذا ما كنت في حالة البرارة أو في حالة الخطيئة ؟

2- هل يمكن أن تكون معرفتنا لحالة البرارة الشخصية كاملة و أكيدة ؟

3- هل لحالتنا الخاطئة علامات تدل عليها ؟

1- التعرف إلى حالة البرارة :

يبدو أنه من الصعب جداً معرفة ما إذا كان قلبنا هو في حالة قبول كلي أو في حالة رفض جذري لملكوت الله ... لأنه يصعب علينا أن نميز بوضوح ما هو عائد في عمل الخطيئة إلى حريتنا الخاصة، وما يعود إلى الأوضاع الضاغطة .. فالقديس توما الأكويني يقول "لا أحد يستطيع أن يعرف الله بعلم أكيد إذا ما كان حاصلاً على حالة النعمة"(أو النعمة الحالية) .

معنى هذه المقولة يتلاقى مع تعليم المجمع التريدنتيني: "لا أحد يعرف بيقين إيماني، بعيداً عن كل خطأ أنه في حالة النعمة" وهذا ما يتوافق أيضاً مع الجواب الذي ورد على لسان القديسة جان دارك للمتهمين إياها بالتصلُّف: "تسألونني إذا ما كنت في حالة النعمة، فأجيبكم: إذا كنت حاصلة عليها فالرب يحفظني بها، وإن لم أكن حاصلة عليها، فأطلب إليه أن يضعني فيها" أمّا عن إمكانية وجود علامة تشير إلى حالة النعمة فالقديس توما يقول: "يمكن للإنسان أن يعتبر ذاته في حالة النعمة بقدر ما يجد سعادته في الله ..." وقبل أن نصل إلى مسألة التعرّف إلى الخطيئة لابد من التوقف على إنجيل الدينونة في متى ( 25/31-32)

نلاحظ أن الأخيار والأشرار هم أول من يتعجبون عندما يسمعون كلمة الابن الديان يقول لهم: "تعالوا إليّ يا مباركي أبي ... أو اذهبوا عني يا ملاعين ... لأني جعت فأطعمتموني أولم تطعموني ... فيجيبه هؤلاء مندهشين متى يارب رأيناك جائعاً فأطعمناك... أو لم نطعمك ...." حُكْم الإنسان على نفسه كثيراً ما يكون ناقصاً أو مغلوطاً .... وحده المسيح الديان يعرف أن يكشف له ما كان في قلبه، فالشعور بالبرارة أو عدمه كما والشعور بالخطيئة لا يدل حتماً "أن الإنسان حاصل على هذه أو تلك ... حسبنا في الحياة أن نتحلى بالتواضع ونبقى في حالة توبة مستمرة من خلال الاهتداء الحثيث إلى الله والرجوع الدائم إليه بمعونة النعمة المبررة ... وأننا نحصل على البرارة في كل حالة شك من خلال اللجوء إلى سر التوبة بالذات.

2- التعرف إلى الحالة الخاطئة

للتعرّف إلى الحالة الخاطئة، نتبع تعليم الكنيسة الذي يشدّد على أنواع متعدّدة للخطيئة، وإننا نختصر ردّنا على السؤال الثاني بالتمييز بين هذه الأنواع:

أ: أنواع الخطيئة

1- الخطايا ضد الفضائل الإلهية :

- الخطيئة ضد الإيمان : يمكن أن تُعتبر أساساً لسائر الخطايا ، لأنها فيما ترفض الإيمان بالله الخالق والمخلص، تقود إلى الصَنمية. والحال أن الكنيسة اعتبرت منذ نشأتها أن الخطيئة مهما كان نوعها هي شكل من أشكال الصنمية، وعبادة الذات والمخلوقات.

- الخطيئة ضد الرجاء: هي رفض الاعتقاد بأن للعالم وللآخرين ولي أنا شخصياً مستقبلاً في الله ... وهي رفض القبول بأن قدرة الله تعمل عملها في الوَهَن وتتغلب "على حكمة أبناء هذا الدهر" ...

- الخطيئة ضد المحبة: تكمن في الانكفاء على الذات بطريقة مُسرفة والانغلاق على الآخر وتناسيه واحتقاره وإلحاق الضرر به. وتشمل كلمة الآخر الله والقريب والعالم .... والخطيئة ضد المحبة هي دليل واضح أننا لم نعرف الله المحبة.

مادة هذه الخطيئة هي ثقيلة جداً ... إذ أن بمحبة الله والقريب ترتبط الشريعة كلها والأنبياء (متى 22/40)...

فمن كفر إذاً بهذه الفضائل الإلهية أو بإحداها، شعر بأنه يضع ذاته خارجاً عن حياة الله واعتراه الظلام والضلال والضياع ....

2- الخطايا الرئيسة الأخرى:

هي التي تتكلم عنها الوصايا العشر: وينّوه عنها يسوع في الإنجيل، وهي بالإضافة إلى وصيتيْ المحبة، "عدم السرقة والزنى وشهادة الزور والظلم ثم إكرام الوالدين". (مرقس 10/19) وهناك خطايا "تصرخ إلى السماء" مثل إهراق الدماء (تكوين 4/10)، وخطيئة السادوميين (تكوين 18/20)، وأنّات الشعب المظلوم (خروج 3/7-10)، وشكوى الغريب والأرملة واليتيم (خروج 22/20-22)، وظلم الأُجَراء (تثنية 24/14-15)...

3- الخطيئة ضد الروح القدس:

أو خطيئة التجديف على الروح القدس (متى 12/31)، وهي التعامي عن إيحاءات الروح الخاصة وتلك التي يستشفها المؤمن من الكتاب المقدس وحياة الكنيسة – إنها في النهاية رفض قطعي للإيمان.

4- الرذائل الرئيسة السبع:

تُدعى هذه الرذائل "رئيسة" لأنها تولِّد رذائل وخطايا أخرى. وهذه هي: الكبرياء (ومنهم من يعتبرها أساساً لكل خطيئة وتُسمى أيضاً بالمجد الباطل) ثم الحسد والغضب والبخل والشراهة والزنى و"الأَسيديا" (وتعني أصلاً: عدم تذوق الأمور الروحية، وقد درجت اليوم تسميتها بالكسل أو الركود).

ب: أنواع الخطايا وفداحتها

هذه الأنواع التي ذكرنا تدل على تشعبات الخطيئة التي تتضح فداحتها من خلال العنوان التالي:

الباعث الخامس: الخطيئة المميتة والخطيئة العرضية

السؤال: يُقال أنّ هناك خطايا مميتة وخطايا عرضية، فكيف نميز بينهما؟

الجواب:

• الخطيئة المميتة : عندما يكون قلب الإنسان ممتلكاً بقوة الخطيئة أو بتعبير آخر عندما يحيد خياره الجذري عمداً عن الله، فالتقليد المسيحي يتكلم عن الخطيئة المميتة وهذه الحالة وحدها تستحق أن تدعى خطيئة. وهي تستدعي حسب تعليم الكنيسة شروطاً ثلاثة:

- معرفة كاملة - قصد ثابت - ومادة ثقيلة

• الخطيئة العرضية : تُحدد الخطيئة العرضية عند أغلبية اللاهوتيين بأنها طاعة كاملة لإرادة الله أو أنها توقف في السير نحو الله الخالق و المخلص أكثر ممّا هي انفصال عنه. وغالباً ما يُقال أن الخطيئة تكون عرضية إذا نقص شرط أو شرطان من الشروط الثلاثة التي للخطيئة المميتة.

الباعث السادس: الخطيئة الاجتماعية والخطيئة الشخصية

السؤال: ما هي الخطيئة الاجتماعية وهل للفرد مسؤولية فيها؟

الجواب: هناك مستويات ومعانٍ مختلفة لما يسمى بالخطيئة الاجتماعية:

• التضامن في الخطيئة : يوجد تضامن بين الناس يتطور على الصعيد الديني في سر شركة القديسين " فكل نفس ترتفع ترفع العالم " وتقابل قاعدة الارتفاع هذه ، قاعدة الانحدار حتى يمكن التحدث عن " الشركة في الخطيئة " فإذا انحدرت نفس إلى الخطيئة تنحدر معها الكنيسة و نوعاً ما العالم كله "

• الإساءة المباشرة إلى القريب : هي اجتماعية كل خطيئة ضد القريب ... و إنها لخطيرة لأنها على الأخص تنافي الوصية الثانية الشبيهة بالأولى ( متى 22/39)

• الإساءة إلى العلاقة بين الأشخاص في المجتمع : هي اجتماعية كل خطيئة تُقترف ضد العدل في العلاقات القائمة بين الأشخاص، وبين الشخص والمجتمع ..... والتي تمس بحقوق الإنسان و بسلامته الجسدية وبحريته وبمبادئه وكرامته وشرفه، وكل خطيئة تُقترف بحق الخير العام و متطلباته في المجال الواسع.

• الإساءة إلى العلاقات القائمة بين مختلف الجماعات البشرية ... فإن صراع الطبقات كما وصراع الحضارات والديانات ، وكذلك الخصومات المتمادية بين الأمم و بين الفئات المتعددة في الأمة الواحدة هي شر اجتماعي ...

• و يأتي السؤال هنا هل بالإمكان إلقاء مسؤولية مثل هذه الشرور ، و بالتالي الخطيئة على أحد الناس؟

للجواب نقول: ينبغي الاعتراف بأن وقائع وأحوالاً تكون غالباً مجهولة الفاعل كما أن أسبابها معقدة ولا يمكن الاهتداء إليها. لكن الكنيسة تعرف وتعلن أن خطايا اجتماعية من هذا النوع هي نتيجة عدة خطايا شخصية متراكمة ومترابطة يقترفها من يتسبب بالظلم ويسانده ويستغله ومن كان بإمكانه أن يعمل على تحاشي بعض الأضرار الاجتماعية و إزالتها ، وتقاعس عن ذلك إهمالاً وخوفاً ومخالفةً وسكوتاً مُخزياً، وتواطُؤَّاً مقنعاً أو عن لامبالاة ومن يختبئ وراء الإدعاء باستحالة تغيير العالم... إن المسؤولية الحقيقية إذن غالباً ما تقع أيضاً على عاتق الأشخاص أنفسهم...

هذا هو باختصار مفهوم الخطيئة وبعض المسائل المطروحة حوله فإذا كانت هذه هي أهمية الخطيئة، فكم يكون أهم سر التوبة والمصالحة الذي يمحو الخطيئة من جذورها ويعيد إلينا نعمة البرارة والخلاص وتقوينا للتغلب على التجارب.




Leave a Reply.