المربي سمير عبدو

أحّد الأرثوذكسيّة (تنصيب الأيقونات المقدّسة)

تتذكّر الكنيسة البيزنطيّة في هذا الأحد النقدّس انعقاد المجمع المسكونيّ السابع في مدينة نيقية (787) ضدّ بدعة محطّمي الأيقونات، وهي آخر بدعة اجتاحت الكنيسة الشرقية وقد دامت أكثر من قرن. وأعلن المجمع شرعيّة تكريم الأيقونات المقدّسة، لأنّ التكريم موجّه إلى القدّيسين الّذين تمثّلهم.

إنّ تكريم الأيقونات يهدف أوّلاً إثبات حقيقة التجسد. فتأمّل حقيقة مجيء السيد المسيح هو أساس إكرام الأيقونات. فالمسيح المتجسد هو الصورة الجوهرية، المثال الأصلي، لجميع الصور، ولنتذكر نحن أيضاً أننا أصبحنا بتجسد السيد المسيح على الأرض صوراً حية لله وإن كانت غير كاملة، لأن الإنسان الأوّل، آدم قبل الخطيئة، كان هذه الصورة التي أرادها الله في حياتنا، أي أن تكون حياتنا أيقونة لا عيب فيها، غير ملطخة بالأخطاء والشوائب. فالأيقونة تمثل النموذج الأصلي للإنسان.

لقد وضعت الكنيسة أحد الأيقونات في أول الصوم الكبير كي يرجع الإنسان إلى صورته الأصلية قبل السقوط. فحين نتأمل صورة قديس ما مرسومة على أيقونة، نتأمل أن هذا القديس بشر مثلنا. وبالرغم من جسده الترابي، عاش على الأرض كما يعيش الملائكة المجردون عن المادة. فنحاول أن تكون حياتنا أمام الآخرين أيقونة تمثل النموذج الأصلي للإنسان الأول، حتى نعكس صورة الله من خلالنا للآخرين، وأن تكون هذه الأيقونة نافذة على السماء، وأن نكون الصورة التي يرى الناس من خلالنا حقيقة الله العلوية التي خلقت على مثاله.

نتذكر في هذا الأحد من الصوم أن الإنسان أجمل أيقونة صنعها الله في هذا الكون. وتأمّلنا يقودنا إلى تأمل البيئة التي حولنا. فعندما نتأمل الأيقونة، نرى فيها تقديس الإنسان والطبيعة بأسرها من نبات وحيوان. أما النبات فهو الخشب الذي تصنع منه الأيقونة. المعادن هي الألوان التي تلون الرسم، والقماش والجلد والغراء مأخوذة من الحيوان. وجوهر الأيقونة نشاهد فيه الإنسان. فإكرام الأيقونات هو إكرام البيئة والإنسان في آنٍ واحد. والمجمع الّذي دافع عن تكريم الأيقونات دافع عن البيئة والكائنات الحية كلها. فالأيقونة تحمل في بنيتها آثاراً من الخليقة كلها. والطبيعة هي أجمل أيقونة خلقها الله لنا، لأنها تعكس جمال الله وروعته.

لقد تحولت الطبيعة منذ معصية آدم من صورة النعمة والسعادة والجمال إلى صورة الخطيئة والشقاء والقبح. وهذا التشوه في صورة الطبيعة يزداد في أيامنا نحن، حتى أصبح الإنسان يحن إلى صورة الإنسان الأول البدائي الذي كان متصالحا مع الطبيعة، يعيش حياة بسيطة، تأتيه فصولها في أوانها، وتأتيه الثمار في أوانها أيضاً. فالإنسان والطبيعة حلقة متكاملة في مسيرة في هذه الحياة.

قلنا إن الحيوان حاضر في الأيقونة من خلال الغراء والجلد. وعالم الحيوان يعكس أيضاً صورة الله، وهو مدعو إلى العيش في سلامٍ مع الإنسان. فقبل الخطيئة، كانت وحوش البرّية تعيش علاقة غير دموية مع الإنسان. ومع الخطيئة، تحولت العلاقة إلى علاقة دموية من أجل تقديم الذبائح لإرضاء الله. واستمرت العلاقة إلى يومنا هذا. لقد انتهت الذبائح وحلت محلها المتعة الشخصية في الصيد والقتل من أجل الشعور بالقوة.

لقد عاش القديسون والنساك الذين تصورهم الأيقونة العلاقة الأولية التي كانت بين آدم والحيوان قبل دخول الخطيئة إلى حياة آدم، علاقة مودة ومساعدة وعناية. ومن أمثال هذه العلاقة، القديس سمعان والأسد الداجن.

في هذا الأحد، لتكن صلواتنا من أجل بيئتنا حتى تعود إليها صورة جمال أيقونتها خالية من التلوث. ولنرفع صلواتنا لنرى في ما صنعته يدا الرب صورته القدوسة.

أحد الذخائر المقدسة

في هذا الأحد المبارك، تكرم الكنيسة الشرقية الذخائر المقدسة. وقد أمر بإقامة هذا العيد المطوب الذكر البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم سنة (1843) ونظم الاحتفال به وجمع وألف القطع التي تتلى في هذا الاحتفال.

إن الكنيسة، عندما وضعت في الأحد الثاني تكريم الذخائر المقدسة، أرادت تذكير الإنسان بأنه مقدس. وعندما تأملنا في تكريم الأيقونات، رأينا أن الإنسان هو أجمل أيقونة صنعها الله، وأنه صورة الله ونافذة على السماء للآخرين. في هذا الأحد، تحث الكنيسة المؤمن وتذكره بأن جسده هو هيكل الروح القدس. فحين نقف أمام ذخائر قديس نشعر بعظمة وخوف ووقار. لنتأمل كم هو عظيم ومقدس هذا الجسد الذي نحمله في حياتنا. فنحن نحمل فيه نعمة الروح القدس الذي حل فينا في سر المعمودية والتثبيت. ولنتأمل كيف أننا نجعل هذا الجسد مسكناً للشيطان حين نستعمله لأغراض ومصالح نضر بها أنفسنا والآخرين، وعندما نستعمل الجسد من أجل اللذة فقط بدون احترام لخالقها وللروح القدس الذي هو مسكنها.

في هذا الأحد نتأمل أن القديسين الذين نكرم أجسادهم لم يتمتعوا بأجساد خارقة للطبيعة بل بأجساد مثل أجسادنا، معرضة للشهوات والأمراض والتجارب. بل يحمل أحياناً جسداً ضعيفاً ومريضاً. لكنه كان يعمل ويتعب ويصلي ويطلب معونة الروح القدس الذي جسده هو هيكله. فقد كان يصون جسده من الخطيئة، ويحول شهواته إلى نعم بدل الخطيئة. لنجعل إذاً تأملنا في هذا الأحد المقدس بالنعم والبركات التي نحملها في أجسادنا، ولنجعل من أجسادنا مكاناً للنعمة.

في هذا الأحد، نتذكر أن الذخيرة ليست من جسد القديس فقط، بل من البيئة التي عاش فيها: أدواته، ثيابه، أثاث مسكنه ... كم من القديسين بقيت ثيابهم بدون أن يصيبها البلى، وأصبحت أداة ينال المؤمن منها بركة. إذاً فالطبيعة تتحول بفضل الإنسان وقداسته إلى ذخائر مقدسة. ولكنّها قد تتحول أيضاً بسبب الإنسان إلى مصدر خطيئة وشقاء، حين يستعملها لمصلحته ولتدمير الآخرين.

فلنجعل تأملنا وصلاتنا في هذا الأسبوع من أجل تقديس أجسادنا والبيئة التي نعيش فيها، ولنتذكر دوماً قول القديس بولس: «أما تعلمون أن أجسادكم هي هياكل للروح القدس».

الأحد الثالث، السجود للصليب الكريم

في منتصف الصوم، تنصب الكنيسة أمامنا صليب المسيح حتى تذكر المؤمنين بدور الصليب في تاريخ الخلاص، واستعدادهم لرؤية هذا الصليب الذي سيقام يوم الجمعة العظيمة.

إن الكنيسة، عندما وضعت في منتصف الصوم الكبير أحد السجود للصليب الكريم، تذكرنا هل أنا مستعد لأن أتبع المسيح حاملاً الصليب، لا الصليب الذي أكون قد اخترته أنا، بل الصليب الذي يضعه هو نفسه على كاهلي. هل أنا مستعد أن أقبل جميع المحن والآلام التي يمكن أن تطرأ علي كالاشتراك في الصليب المخلص؟ وعندما أدنو من هذا الصليب المعروض في وسط الكنيسة وأقبله، هل ستكون قبلتي قبلة خاطئ غير تائب، قبلة يهوذا، حركة سطحية لا تغير شيئاً في حياتي؟ أم علامة سجود وإيمان تلزم وجودي برمته؟ وأن نقبل بثقة إلى عرش النعمة لننال غفران خطايانا بما أن يسوع هو كاهننا العظيم، كما هو موضح في الرسالة إلى العبرانيين (عب 14/ 5-6) «فإن الحبر الذي لنا ليس ممن لا يستطيع أن يرث لأمراضنا، بل قد جرب في كل شيء مثلنا ما خلا الخطيئة»

في هذا الأحد، لا يكن تأملنا للصليب المقدس الذي صلب عليه المسيح من أجل حلاصنا فقط بل من أجل خلاص الخليقة كلها. فالخليقة كلها أصبحت خاطئة ومشوهة عندما أخطأ آدم وحواء، وأصبحت ملعونة بسبب خطيئتهما كما هو موضح في سفر التكوين (تك 3/ 17-18) «وقال الرب لآدم: لأنك سمعت كلام امرأتك فأكلت من الشجر الذي أو صيتك أن لا تأكل منها، تكون الأرض ملعونة بسببك، شوكاً وعوسجاً تنبت لك، ومن عشب الحقل تقتات» وهذا واضح أيضاً في الرسالة إلى العبرانيين (عب 6/ 7-8) «فكل أرض شربت ما نزل عليها من مطر مرارا وأطلعت نباتا صالحا للذين فلحت من أجلهم نالت بركة من الله. ولكنها إذا أخرجت شوكاً وعشباً ضاراً، فهي مرفوضة تهددها اللعنة ويكون عاقبتها الحريق»

فالخليقة كلها تنتظر بفارغ الصبر المخلص الذي سيخلصها من اللعنة والتشوه والدمار الناتجين عن خطيئة آدم، كما يوضح القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومة (8/ 19-21) «فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله. وما كان خضوعها للباطل بإرادتها بل بإرادة الّذي أخضعها. ومع ذلك، بقي لها الرجاء أنها هي ذاتها ستتحرر من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله في حريتهم ومجدهم.» وعندما ضحى الرب يسوع المسيح بنفسه على الصليب بطاعته ورغبته من أجل خطايانا، أنقد أيضاً الخليقة كلها من أعمال الشرير، وأرجع إليها جمال الطبيعة وصفائها وبراءتها وكرامتها وقدسيتها، وبهذا نكرم الصليب المقدس ليس لأنه خلصنا نحن البشر فقط من آثامنا، بل لأنه خلص الخليقة كلها، أي كل الكائنات الحية وغير الحية.

فلنتأمل في هذا الأسبوع بالصلاة التي نرددها في درب الصليب: لأنك بصليبك المقدس خلصت العالم، حتى نعيد كرامة بيئتنا وقدسيتها وصفائها، ولنجعل مقصد حياتنا نشيد مار فرنسيس للمخلوقات.




Leave a Reply.