تعالوا نتعرّف على معنى التاو

T

          1. مثل كلّ الحضارات القديمة، لقد فسّر التقليد العبريّ الأحرف الأبجديّة، وأعطى لكلّ حرفٍ منها معنىً روحيّاً وصوفيّاً. وبما أنّ الكتابة العبريّة، وبالتالي الأحرف العبريّة، لم يتحدّد شكلها نهائيّاً إلاّ في القرن الثاني (تقريباً) بعد المسيح، فكثيرٌ من الأحرف كانت تُكتب بأشكالٍ مُختلفة، بحسب الحقبة الزمنيّة والمنطقة الجغرافيّة التي كان يعيش فيها اليهود (أكان في فلسطين أم في الشتات).

          كان الحرفُ الأخير من الأبجديّة العبريّة يعني “نهاية”، “تتميم وحي كلمة الله”. اسم هذا الحرف Tau أو Taw، ويُلفظ Tav في العبري، وكان يُمكن أن يُكتَب: L، X، +، T.

          2. ففي العهد القديم، يستعمل النبيّ حزقيّال رمز هذا الحرف الأخير من الأبجديّة، ليحثَّ الشعب لكي يبقى أميناً لله حتى النهاية، فيُعرَفَ، بصورة رمزيّة، بأنّه “مختومٌ” على جبهته بهذا التاو، الذي يجعله مميّزاً عن غيره من الشعوب بأنّه مُختاراً من الله. “وقال الربّ: إجتَزْ في وسط المدينة، في وسط أورشليم، وارسِمْ التاو على جباه الرجال الذين يتنهّدون وينتحبون على كلّ القبائح التي صُنعت في وسطها. وقال لأولئك على مسمعٍ منّي: اجتازوا في المدينة وراءَه واضربوا (...) ولكن من عليه التاو لا تدنوا منهُ” (حزقيال 9/4-6).

          لقد فسّر التقليد اليهوديّ هذا المقطع كالآتي: جباه الصالحين مختومة بتاو من الحبر الأزرق، أمّا جباه الأشرار فباللون الأحمر. فالتاو هي علامة الحياة والموت. يقول التلمود: “التاو  تعني بأنّك ستحيا، وتعني بأنّك ستموت. التاو تعني أنّ استحقاقات الآباء قد تمّت، وبأنّها تمنح النعمة. التاو تعني أنّ الناس ممتلئة بالتورات”. فالتاو يدلّ إذاً على الحياة والموت، وعلى الكمال، وأيضاً على التورات والحقّ.

          3. عندما استعمل الكتّاب المسيحيّون الأوائل الكتاب المقدّس (ولم تعدْ تكتب التاو بشكل +)، استعملوا الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، وفي هذه الترجمة كان حرف التاو يُكتب بشكل T. فأصبح بذلك الـT، بالنسبة للمسيحيّين، رمزاً لصليب يسوع، الذين يتمّم كل وعود ونبوءات العهد القديم. وعندما يتكلّم سفر الرؤيا، في العهد الجديد، عن ختم الله على جباه المؤمنين به، يفترض بأنّ رمزيّة التاو معروفة جيّداً.

          4. كان فرنسيس يعرف جيّداً جماعة مار أنطونيوس الرهبانيّة، وكانت هذه الجماعة في خدمة البُرُص. وكان أعضاؤها يحملون صليب يسوع بشكل تاو T، لحمايتهم من الأوبئة ومن الأمراض. إنّه لَمِنَ المُحتمل أن يكون قد اشتغل فرنسيس مع هؤلاء الرهبان في أسّيزي وأن يكونوا قد استضافوه في مستشفاهم في روما. ففي أهمّ لحظات إهتدائه، يتكلّم فرنسيس كثيراً عن اللقاء مع المسيح بشكل أبرص. وإنّه لَمِنَ الطبيعيّ أن يكون، بعد ذلك، قد استعمل التاو، بمثابة توقيع أو ختم خاصّ ينهي به مجمل رسائله، جامعاً بذلك بين الأمانة لآلام يسوع وبين وصيّة خدمة “إخوتي هؤلاء الصغار”، أي البرص.

          في سنة 1215، بمناسبة إفتتاح المجمع اللاتِراني الرابع، سمع فرنسيس البابا إينوشَنْسْيُوس الثالث يدعو إلى تجدّد كبير في الكنيسة، مستعملاً كلمات النبيّ حزقيّال ويقول: “نحنُ مدعوّون لإصلاح ذواتنا، وأن نكون دائماً بحضرة الله كشعب صدّيق. سوف يَعرِفنا الله من خلال علامة التاو، المختومة على جباهنا”. رمزيّة التاو هذه، اقتبلها فرنسيس كدعوة شخصيّة لإصلاح الذات والتوبة. وكان يقول لإخوته بأنّ ثوبهم الرهبانيّ له شكل التاو (إذا فتح الراهب ذراعيه)، مجدّداً بذلك دعوته لهم بأن يكونوا “مصلوبين أحياء”، علامةً للأمانة حتى الموت.

          5. يضع تلاميذ فرنسيس اليوم التاو في أعناقهم، كعلامةٍ لإلتزامهم وختمٍ لها،  وكعلامةٍ لانتمائهم إلى حظيرة الربّ يسوع، وكتذكير بانتصار المسيح على الشرّ من خلال تضحية الحبّ اليوميّة. فأصبحت “علامةُ العِثار” علامةَ رجاءٍ وشهادةَ أمانةٍ حتى نهايةِ حياتنا.

 
فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
في أن نطلب روح الربّ
ايلوا لوكلير

في خلاصة تعليمه الصلاة واستنادا إلى خبرته الشخصية، نجد في القانون العبارة التالية:


" ليرغب الإخوة قبل كلّ شيء روح الربّ وليتركوه يعمل فيهم".

حياة الصلاة تعني أولا تلك الرغبة الكبيرة، ذلك البحث المتواصل عن رغبة الله وعن عمله فينا. إننا من ذاتنا لا نستطيع أن نذكر اسم الله بجدارة ولا نعرف أن نرجوه كما يليق.

ألا تعني الصلاة للمسيحي إدراك يسوع في علاقته مع الربّ؟ أي أن نتعلّم على قول :" آبا أيها ألآب." إن ذلك غير مستطاع إلا بالروح القدس. ومدربنا الأكبر في حياة الصلاة هو روح الربّ. علينا إذا أن نرغب فيه فوق كلّ شيء وأن نتركه يعمل فينا.

أدرك فرنسيس تمام الإدراك، أننا لا ننقاد بعفوية إلى روح الربّ بناءً على مظاهر حياتنا الدينية والروحية أي لا يكفي أن ننصرف إلى نشاط يوصف بالروحي، حتى يكون لنا نصيب فيه.

 ويرى أنه من الممكن أن نبرهن على همّة مخلصة للصلاة والتضحيات، للحياة الرسولية ولدراسة كلمة الله، وأن ننقاد في كلّ ذلك، ودون دراية منا، بأمر آخر هو غير روح الربّ.

اهتمّ فرنسيس في توصياته بتثبيت الإخوة في الحقّ، ساعدهم ليروا بوضوح أعماق ذواتهم، علّمهم كيف يميزون روح الربّ من الإلهام البشري، ودلّهم على أسس بسيطة ومعصومة عن الخطأ.

 فالراهب الذي يضطرب فجأة وبغضب لأنه يُعاكس في آرائه ومخططاته مهما سمت، فانه يحمل على الظن بأنه تحت تأثير تملّك ذاتي أو تشنّج عصبي... وقد يكون بسبب انطوائه على نفسه.

 كما أنّ الماء العكرة تدل على عدم صفائها، كذلك اضطراب الإنسان وغضبه، يكشفان عدم صفاء قلبه: إن الاضطراب والغضب مع قلّة الصبر والهجومية تفضح استعدادا للتملك حتى مع أكبر تطلعات النفس وأعلاها.
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
صلاة قلب طاهر
ايلوا لوكلير

كيف ننفتح على روح الربّ؟ كيف نتركه يعمل فينا؟

إن السعي إلى روح الرب مغامرة تحتاج قبل كلّ شيء إلى " القلب النقي". لذلك بعد أن حثّ فرنسيس الأخوة على طلب روح الربّ، دعاهم الى:

" إلى تقديم صلاتهم لله بقلب طاهر ونقي".

القلب النقي هو القلب الذي يعي فقره بتواضع أمام الله، معترفا بأنه وحده القدوس، فلا يجد الفرح إلا عنده. هو القلب الذي لا عودة له إلى ذاته؛ القلب المتجه كليا إلى الله. عيناه شاخصتان به وقد امتلأ بفرح التسبيح.

انه فعلا قلب فقير... ثمّ إن هناك علاقة وطيدة بين :"القلب الطاهر"و"العبادة"

يقول فرنسيس: " إن من لا ينقطعون أبدا عن عبادة الله الحيّ والحقّ ويجعلونه قبلة أنظارهم، هؤلاء فقط يملكون قلبا طاهرا".

فالقلب الطاهر لا يقبل الانفصال عما يدلّ عليه، أي عن العبادة.

القلب يصبح نقيا فعلا في العبادة. فيها يُفرغ ذاته من كلّ ما يشغله حتى من شاغل كماله الشخصي. وصفاء القلب كما يراه فرنسيس، ليس صفة أخلاقية بقدر ما هو عمق في المقابلة والعبادة.

القلب الطاهر لا يرى إلا الله؛ يرى رفعته وقداسته اللامتناهية، يرى فرحه الأبدي وهذا يكفيه. وهذا الاستعداد هو من عمل روح الربّ في الإنسان.

لذا يؤكد فرنسيس في كتاباته كلها، طالبا من الإخوة أن يتوجهوا إلى الله كليا ويعبدوه " بقلب طاهر": لنحبّ الله ونعبده بقلب طاهر وفكر نقي. هذا ما يطلبه الله منّا قبل كلّ شيء إذ يقول:

" العباد الحقيقيون هم من يعبدون ألآب في الروح والحقّ وكلّ من يعبدوه عليهم أن يعبدوه بروح الحقّ..."

" في المحبة المقدسة وهي الله، أسأل إخوتي جميعا: رؤساء وإخوة أن يبذلوا جهدهم لإزالة كلّ مانع أو همّ، وكلّ ارتباك يقف حائلا بينهم وبين محبة الربّ يسوع وخدمته، بين محبته وعبادته بصفاء نية ونقاوة قلب.

هذا ما يطلبه الله فوق كلّ شيء. لنُقم إذا في داخلنا هيكلا ومسكنا لله العليّ القدير، للآب والابن والروح القدس".
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
التوحدات والمناسك الكبرى
ايلوا لوكلير

لم يكتف فرنسيس بحثّ الإخوة على عبادة الله، بل كان لهم مثالا حيّا. غالبا ما كان يوقف تنقلاته الرسولية ليحبس نفسه في عزلة، يكون الله فيها محور اهتمامه، وكأنّ الغوص فيه حاجة تلحّ عليه.



يقول القدّيس "
بونافنتورا": " اختبر فرنسيس في تأملاته الحضور المرجو للروح القدس، معطي النفوس المتمرّسة بالصلاة بقدر ابتعادها عن العالم. انه طلبا للعزلة والصلاة يرتاد الأماكن المقفرة أو الكنائس المهملة".


الأماكن العالية تجتذبه بشكل خاص... يمضي إليها مع اثنين أو ثلاثة من الإخوة.


عند وصولهم الجبل، لا يتوقف فرنسيس ليتأمل الطبيعة الخلابة بل ينزل إلى مغارة، إلى تجويف في صخرة كان عشّه المفضّل، وهناك يستسلم للصلاة...

" لم تكن صلاته سريعة، سطحية أو عديمة الصبر، بل صلاة يغرق فيها زمنا، يغرق بعمقها فيغلفه، نظرا لشدّة تواضعه، حبور عظيم. كان أذا ابتدأ صلاته مساءً، لا ينتهي منها إلا في صبيحة اليوم التالي.

" لم يكن رجل صلاة، بل صلاة أصبحت رجلا".

أسابيع طويلة وأحيانا شهورا كاملة يمضيها في المناسك متوجها نحو الله ومستسلما لروحه القدوس.

طريق الإنجيل

لم تتمسك التوحدات الكبرى والمناسك بفرنسيس إلى الأبد. كان روح الرب يعيده إلى البشر على مسالك الإنجيل. يرى فرنسيس أن حياة الوحدة مع الله لا تنفصل عن الحياة الإنجيلية على خطى السيد المسيح. الربّ الإله نفسه، قاده لينطلق مقتفيا آثار الابن.

أدرك الفقير الصغير وجود صلة وثيقة بين تواضع الممارسة الإنجيلية والاتحاد بالله. وهذا ما يُستنبط من الصلاة التي يرفعها إلى الله لأجله ولأجل إخوته في نهاية رسالته إلى الرهبنة. وقد جاء فيها:

" أيها الإله القدير والربّ الصالح
إننا بذواتنا لسنا إلا فقراً.
أما أنت – ولأجلك أنت- أعطنا
أن نفعل ما تريد أن نفعله
وأن نطلب ما يرضيك،
حتى إذا تنقينا داخليا، استنرنا وأضرمنا
بنار روحك القدوس،
نسير على خطى ابنك الحبيب
وبنعمتك فقط نصل إليك أيها العليّ،
أنت يا من تحيا وتملكك ممجّدا
في الثالوث الكامل والوحدة المتواضعة،
إلها قويا إلى دهر الداهرين."


توجز هذه الصلاة، عقيدة القديس فرنسيس الروحية. انه بفعل الروح القدس الذي يطهره، يضيئه ويلهبه، يلتزم بالسير على خطى الابن الحبيب ويصل إلى الوحدة مع الآب.

حياة الصلاة في رأيه، هي حركة النفس التي تتأثر بروح الرب وتسير مع المسيح، متّحدة به ثمّ تدخل في وحدة الثالوث الأقدس.

التوبة الإنجيلية والخبرة الصوفية تذوبان معا بفعل الروح القدس. كتب فرنسيس متحدّثا عن الذين يعيشون بحسب روح التطويبات الإنجيلية في الصبر والتواضع والخدمة المتبادلة:

" كلّ من يتصرّفون كذلك ويثبتون الى النهاية،

يحلّ عليهم روح الربّ ويجعل سكناه بينهم، ويدعون أبناء الآب السماوي...."

 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
الينابيع
ايلوا لوكلير

قبل تتبّع خطى فرنسيس في تأمله تجدر الإشارة إلى المصادر التي غذّت
صلاته.

كلمة الله

كان فرنسيس كثير الاصغاء الى كلمة الله، صلاته مشبعة بها.

هذّبت المزامير والأناشيد الكتابية صلاة فرنسيس فغاص في تيارها. وجد نمط الإنسان الكتابي وسعى إلى تأوينه:

إنه الفقير إلى الله بكامل أبعاده وهو في الوقت نفسه الإنسان الذي يصرخ شقاءه وينتظر منه رجاءه. انه الرجل الذي يعبد الله ويتلاشى في صلاة الشكر والحمد.

الحياة الطقسية ( الليتورجيا )

الحياة الطقسية منهل آخر، يلهم صلاة فرنسيس إلى جانب كلمة الله. والمنهلان يتداخلان. إن كلمة الله إذ وصلت فرنسيس عبر الليتورجيا فإنها لم تكتف بأن تكون مجرّد وسيلة للتأمل بل أصبحت تؤدى ويحتفل بها : الكلمة صارت فعلا.

يولي فرنسيس الافخارستيا مكانة كبيرة في حياة صلاته. والأعياد الليتورجية الكبرى التي تحيي أسرار السيد المسيح، يعيشها فرنسيس بعنف روحي.

توجيه نحو الله

إن مؤالفة كلمة الله عبر الليتورجيا أعطت صلاة فرنسيس توجها واضحا نحو الله لأنها تعبير رجل استحوذت عليه حقيقة الله وعظمته اللامتناهية، فجاءت وكأنّها والإنطوائية على نقيض.

  اللقاء بالله

" كي تضيء فينا معرفتنا لك"

يقول فرنسيس مستشهدا بالكتاب المقدّس في التوصية الأولى :

 "يسكن الله الآب نورا لا يدنى منه، الله روح، الله لم يره أحد" ( توصية1/ 5). وأول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة كتابات فرنسيس، هي فكرة عظمة الله.

وفي أساس صلاة الفقير الصغير وعي عميق للهوة التي تفصله عن الله:

" إننا نحن المعوزين والخطأة لا نسحق أن نتفوّه باسمك أيها العلي."

الله لا يدرك. انه يفوق مقاييسنا البشرية. " لا بدء له ولا نهاية، انه الثابت وغير المنظور، لا يوصف ولا يسبر..." لم يغتمّ فرنسيس أمام عظمته.

اكتفى بألا يتملّك الله، ألا يسخّره لأموره ومصالحه فيجعله على مقداره. انه يترك الله أن يكون إلها : " انك وحدك قدّوس أيها الربّ للإله. أنت للمعجزات صانعها، أنت القوي والعظيم، أنت العلي...."

ولكن الذي " لا انسان أهل للتفوه باسمه"، يقدّم ذاته لنا، دون استحقاق منا، حتى نتعرّف عليه في انسانية الابن.
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
وجه الله
ايلوا لوكلير

إن الربّ يسوع هو الوجه البشري لله. " وجه الله العلي والمجيد" :

" من رآني فقد رأى الآب".

ومع ذلك يشير فرنسيس في توصيته الأولى إلى أنّ كثيرين رأوا هذا الوجه ولم يتعرّفوا فيه على ابن العلي. لقد رأوه دون إيمان، فلم يعرفوا حكمة الآب.

في الحقيقة، ما من نظرة بشرية بإمكانها أن ترى في صانع الناصرة المتواضع، مصلوب الجلجلة، سيد المجد وحكمة الآب الأبدية. يستشهد فرنسيس بقول للقدّيس بولس:

"ما من أحد يستطيع أن يقول :


يسوع هو الربّ والسيد إن لم يكن في الروح القدس"

روح الربّ وحده قادر على أن يرينا في إنسانية يسوع المتواضعة، ابن الله العلي. هو فقط يكشف لنا، في صفاء البساطة الإنجيلية، طرق الحكمة الأبدية:

" السلام عليك أيتها الحكمة الملكة،
ليحفظك الله مع أختك البساطة القدّيسة والنقية
".

هذه الحكمة هي معرفة السيد المسيح بالروح، معرفة حياتية لذيذة. إنها لقاء رائع مع الله في ابنه المتجسّد.
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
روعة الحبّ الإلهي
ايلوا لوكلير

يتأمل فرنسيس وقد استنار بالروح، في المسيح المتواضع والفقير، مجد الله الحقيقي. انّه أمام تنازلات ابن الله، يرى نجمة ينيرها حبّ لا يقاس ولا يدنى منه:


" ابن الله الوحيد، الحكمة العالية. غادر حضن الآب...

لم يحتفظ لنفسه بشيء. لقد أعطى كلّ شيء..."
تجرّدٌ أسلم فرنسيس لاضطراب كبير وتركه في ذهول لا يوصف:
" كلمة الآب الجزيل الوقار، القدّوس والممجّد... اتّخذ حقا في مريم جسد إنسانيتنا الضعيفة. انّه، وهو الغني فوق كلّ شيء، أراد مع أمّه الطوباوية مريم العذراء، أن يختار الفقر في هذا العالم".

يرى فرنسيس أنّ اختيار الفقر هو وحي من الله، ويعبّر عن حبّ يسلم ذاته كلّيا وبمجانية مطلقة.
وحي الله المجاني: كلمات يقصد بها أنّ الله ليس من حقّنا أي مُلكاً لنا، بل هو رجاؤنا رجاء الفقراء.
" لقد خلّصنا برحمته، على الرغم من ضعفنا وشقائنا، من فسادنا وعارنا، من جحدنا ومساوئنا. لم يفعل لنا في الماضي والحاضر إلا كلّ خير".

لذلك لا يستطيع أن يبعد بصره عن المزود وعن الصليب: انه يرى فيهما الوحي الحسّي والمضيء لحبّ مجّاني، لا حدود له.

" موضوعان يسيطران عليه بشكل يستحيل معهما أن يفكّر بشيء آخر:


التواضع المتجلّي بالتجسّد والحبّ المتجلّي في الآلام".


 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
سرّ دائم الجدّة
ايلوا لوكلير

جاء ابن الله العالم في "
تجرّد كلّي عن ذاته". لم يتأمل فرنسيس هذا المجيء على أنه حدث من الماضي تمّ مرّة واحدة، بل يرى فيه سرّا يتجدّد بيننا كلّ يوم.

حظي سرّ جسد المسيح ودمه بمكانة عالية في صلاة فقير أسيزي. فيه يرى فرنسيس بأنّ مجيء ابن الله، يتحقّق اليوم أيضا، في التواضع والفقر: انّه وحي دائم الجدّة لحبّ دون حدود.

" انظروا: انّه يتواضع كلّ يوم، تماما مثلما فعل عندما غادر قصره الملكي

وتجسّد من العذراء مريم:

كلّ يوم ينزل من حضن الآب إلى الهيكل بين يدي الكاهن وتحت المظاهر الأكثر تواضعا. وكما كان في الماضي يأتي إلى الرسل القدّيسين بجسد حقيقي، كذلك اليوم فانّه يظهر ذاته لعيوننا في الخبز المكرّس.

عندما كان الرسل ينظرون إليه بعيون الجسد لم يروا إلا جسده. ولمّا تأملوه بعيون الروح آمنوا بأنّه ابن الله.

 نحن أيضا، عندما نرى خبزا وخمرا بعيون الجسد، علينا أن نرى بثبات، ونؤمن بأنّ ما هو هنا على الهيكل هو جسد المسيح ودمه المقدّسان.

هذه هي الوسيلة التي اختارها حتى يبقى إلى الأبد مع الذين يؤمنون به.

وقد قال ها أنا معكم الى انقضاء الدهر". ( توصيات: 1، 16-22)

الإفخارستيا مع المزود والصليب، في نظر فرنسيس، هي قمّة إعلان الحبّ الإلهي. فالإفخارستيا اليوم تجعل سرّ المزود والصليب حاضرين:

" أيها التواضع المتسامي، أيها السمو المتواضع!

إن سيّد الكون – الله وابن الله – يتواضع من أجل خلاصنا.

انّه يختفي تحت شكل الخبز.

تأمّلوا أيها الإخوة وانظروا تواضع الله..."

السيد المسيح ليس بمائت بل هو منتصر وممجّد في سرّ الإفخارستيا.

وهو من تريد الملائكة رؤيته.

مجد المسيح هو بهاء المشاركة الأخوية. والمشاركة هي دوما سرّ تواضع وفقر.
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
أعماق الله : سرّ فقر
ايلوا لوكلير

يقول القديس بولس:
" إنّ الروح القدس يعرف كلّ شيء حتى أعماق الله."

اختبر فرنسيس ذلك في حياته. قد يصعب علينا فهم ماهية التكريم الذي خصّ به الفقر إن لم ندرك، باستنارة الروح، شيئاً من أعماق الله فيه.


انّه لمن المستحيل أن يكون فرنسيس قد التزم الفقر بمثل هذا الشغف حتى اعتبره خطيبة له، لا بل زوجة، وأعطاه لقب السيدة " فاقة" أي الفقر، متأثرا فقط بقصص الفروسية التي أشرقت شبابه.


ومن المستحيل أيضا أن يعطي فرنسيس الفقر هذه المكانة الوحيدة الخاصة بالله، إن لم يكن الفقر بالنسبة إليه هو الله نفسه.

لعلّ هذا الكلام يحتاج إلى توضيح: فقر المسيح الذي يتأمل فرنسيس من خلاله في تجرّد ابن الله العلي، يلقي ضوءاً قويّا على حياة الله الخاصة.

ضوء يجعلنا نستشفّ بأنّ حياته كلّها هي نكران للذات وعطاء كامل، أو بالأحرى هي ملء العطاء... هذا النكران وهذا العطاء هما في صميم الثالوث الأقدس.

إن الله وأبا سيدنا يسوع المسيح ليس إلها وحيدا، متجها إلى ذاته ومعيدا كلّ شيء إليها. منذ الأزل، هناك حياة تتواصل وتعطي ذاتها.

 والذات الإلهية هي ذات معطاء. كلّ أقنوم من الثالوث الأقدس، إذ لا ينطوي على ذاته ولا يمتلك بحرص الملء الإلهي، فانه لا حياة له إلا في التواصل. أي في العطاء الذي يبذله للآخرين من هذا الملء الوحيد.

وسرّ الله الثالوث، هو سرّ عدم التملّك، هو سرّ الفقر الذي يُبعد كلّ تملّك أناني وكلّ تمركز على الذات الإلهية.

قمّة التأمل عند فرنسيس قد تكون في هذه الرؤيا المجيدة للثالوث الأقدس:

" أيها الربّ السيّد، أنت ثلاثة وأنت أحد،
أنت الخير، أنت الخير المطلق، أنت الخير الأسمى.
أنت الرّب الإله، الحيّ والحقّ.
أنت الحبّ وأنت المحبّة
..."

حدس خصب

أدرك فرنسيس، مستنيرا بالروح القدس، وجود علاقة جوهرية بين المحبّة والفقر. علاقة يقصد بها الحدس العميق. لنتوقف عند هذا الحدس لأنّه من صميم تأمله.

قال أفلاطون: الحب ابن الفقر. وباستطاعة فرنسيس أن يعتمد نفس المقولة ولكن بمعنى مختلف اختلافا كلّيا ومطلقا، ودون شكّ، بمزيد من الحقيقة والعمق.

 يرى الفيلسوف اليوناني أنّ الحب يولد من نقصان: أي أنه في جوهره رغبة.

أما فرنسيس فإنه يرى أن الحب يولد من " عدم استملاك الذات".

إنّه عطاء من حيث الجوهر. إنّه الملء الذي يُعطي ذاته. من يحب لا يحتفظ بشيء لنفسه، إنّه لا يملك ذاته، لذلك لا يمتلك الآخر.

التخلّي عن التملّك في الحب. هذا هو سرّ المحبة في حقيقتها الإلهية. وقد عبّر فرنسيس عن ذلك بعبارة قالها لإخوته جاء فيها:

" لا تتركوا لكم شيئا من ذواتكم حتى يستقبلكم كاملين من أعطاكم ذاته كاملة".

هذا هو الفقر الذي نعيشه يوما بعد يوم، في علاقاتنا البشرية. إنّه يستوحي من حياة الثالوث، ويجعلنا متّحدين بهذه الحياة.

إنّه يؤسس الأخوّة.
 
 فرنسيس الأسيزي - معلّم للصلاة
شاعر الله
ايلوا لوكلير

إن مثل هذه المشاهد الإلهية تسلّم فرنسيس للاندهاش. ولو حدث ذلك مع إنسان آخر لأنضج هذه الرؤيا وعرضها بأسلوب عقلاني.


أما فرنسيس وهو الشاعر، فقد عبّر بشكل عفوي عن خبرته ومعاناته متغنياً.

عندما كان شاباً شغف بقصائد الشعراء الجوالين وبغنائهم، وها هو الآن يتغنّى ببهاء الحبّ الإلهي. لذا جاءت حياة صلاته أغنية:

... أنت الحبّ والمحبّة، أنت الحكمة وأنت التواضع،
أنت الصبر، أنت الجمال وأنت الرحمة،
أنت الأمان، أنت الطمأنينة وأنت الفرح، أنت رجاؤنا أنت بهجتنا...


" أنت التواضع ": كلمات بسيطة ولكنها شريط من نور، تعبّر بأصالتها عن خبرة فرنسيس الصوفية، عن نهجه الخاص " للشعور بالله"، عن اكتشافه لسرّ الله.

 إن هذا التواضع الإلهي، بحسب فقير أسيزي، هو المفهوم السامي للفقر: انه التجرّد الكلّي والجذري عن الذات، تجرّد يبعد كلّ كبرياء وكلّ ادّعاء، كلّ سيطرة وكلّ احتقار للآخرين. انّه صبر، انّه محبّة.

انّه أيضا جمال : " انّك الجمال" جمال أشرق بالتواضع.
شعر فرنسيس في هذه الرؤيا، بعذوبة كبيرة، بفرح عظيم:


" أنت رفق، أنت فرح..."

لقد زال كلّ خوف.

 يكفي أن يكون الله هو الله حتى يولد الفرح فينا: فرحه.

    Archives

    October 2011

    Categories

    All
    أبانا الذى فى السموات
    القديس فرنسيس الأسيزى